الثورة- لميس علي:
الكلمات التي تحدّثت عبرها حنا أرندت عن معنى العزلة والتصحر «الإنساني»، توصّف الحاصل في زمننا الراهن.. مع أنها توفيت قبل ما يقارب الخمسين عاماً.
في غالبية ما نظّر حوله الفلاسفة والمفكرون عن معاني العزلة، وفيما كتبوه عن فهمهم الخاص لها، سنجد أنه ينطبق على ما نشعر به حالياً.. أي عزلتنا في هذا الحاضر الذي نحياه.. مع أن شكلها الراهن والإحساس فيها يبدو مضاعفاً عما عاشوه..
لنتساءل: ماذا لو وُجِدوا في وقتنا الحالي، الزمن المرتبط والمرتهن لعزلة فرضها الذكاء «الإلكتروني» ومشتقاته.. تطبيقات ذكية.. منصات تواصل اجتماعي.. وغيرها..؟
من أبرز الذين ركّزوا في كتاباتهم على فردانية المرء وعزلته كان الفيلسوف نيتشه، في إحدى أفكاره يقول: «بقدر ما يميل الأقوياء بشكل طبيعي إلى التباعد، بقدر ما يميل الضعفاء إلى (التوحد)، و(القوي) الذي يريده من أعماقه أن يكون سيد نفسه، يجب أن يكون فرداً -ذلك التكوين الأكثر حداثة- إذ إن سعادة القطيع أقدم من سعادة الأنا».
بعد وفاة نيتشه بسنوات قليلة كانت ولادة المفكرة حنا أرندت والتي تنبّهت إلى ملاحظة نيتشه من أننا نحيا في عالم (صحراوي).. فيه الكثير من «تزايد عزلة العالم، وتلاشي ما يجمع بيننا».
في كتابها «مقدمة في السياسة» تلاحظ أرندت: «حين نفقد مَلَكة الحكم -القدرة على أن نعاني ونستنكر- نبدأ في الاعتقاد بأن هناك ما يعيبنا ما دمنا لم نستطع العيش تحت ظروف حياة الصحراء. وبقدر ما يحاول علم النفس مساعدتنا، فهو يساعد من خلال التأقلم مع هذه الظروف، سالباً إيانا أملنا الوحيد، وهو قدرتنا على تغيير الصحراء إلى عالم إنسان ما دمنا لا ننتمي إليها حتى وإن كنا نعيش فيها».
قدّر الفلاسفة والكتّاب العزلة بمعانيها الإيجابية.. لكن كانوا ضد تحويلها إيانا إلى كائنات تحيا ضمن صحراء أو تصحر «آدمي». فوضى النمو غير المضبوط للذكاء الاصطناعي بكل أشكاله يؤدي بشكل ما إلى زيادة التصحر.. لأنه يصل إلى تلك النتيجة التي استخلصتها أرندت «تلاشي كل ما يجمع بيننا»..
وأكثر الأشياء الجميلة التي تجمع بيننا هي «النبض الآدمي».. الجوهر.. أو بمسمى آخر «الروح».. فأي روح نلحظها حين متابعة مقدّم برنامج صنعه الذكاء الاصطناعي..؟ وهل ستتحقق قنوات قائمة بكاملها على الذكاء الاصطناعي، لا يوجد فيها أي إنسان حقيقي، شيئاً من المتابعة..؟ ما هو الجمهور الذي يسعون إلى تشكيله.. وما صفاته..؟.
بعض مؤيدي عصر الذكاء الاصطناعي الخارق، وأبرزهم (راي كورزويل) الذي كان قد ألف كتاباً بعنوان «التفرّد قريب»، يركّزون على إيجابيات الذكاء الاصطناعي متناسين ما ينشره في الطريق الذاهب إليه من عزلة سلبية وتصحر «آدمي».. وربما أخطر من ذلك بكثير.
وعلى مبدأ أرندت، وعلى الرغم من كل التصحر المحيط، نتساءل: هل ستبقى لدينا القدرة على تغيير الصحراء إلى عالم إنساني..؟
فكل مفردات وتقنيات الزمن الحالي الذي نحيا فيه.. الذكية.. الاصطناعية.. أو ما بعد إنسانية السائدة.. والتي نعتقد أننا نتحكم نحن بها.. أو أقله نستخدمها، يبدو أنها هي التي تحكم السيطرة علينا وتستخدمنا وتصنع صحراء أبشع من تلك التي وصفتها أرندت.
ربما بعضنا.. أو غالبيتنا.. يقتنع يوماً أننا لا ننتمي إلى الصحراء «المفروضة»، حتى وإن كنا نعيش فيها.