لم يعد الاستعمار في العصر الحديث محتفظاً بثوبه القديم في السيطرة المباشرة على الدول بعد أن شهد انحساراً واسعاً له نتيجة حركات التحرر الوطني، والاستقلال في القرن العشرين. إلا أنه أصبح أكثر مكراً، ودهاءً، فإذا به يبتكر له أوجهاً عدة تكاد لا تبين من تحت ما يرتديه فوقها من أقنعة خدّاعة، وقد طور من أمره ليتخذ أشكالاً متنوعة من الهيمنة الخفية، والنفوذ الثقافي، والرقمي، والاقتصادي.
فالاستعمار الفكري، والثقافي استطاع فرض القيم الغربية على المجتمعات مقابل تهميش الهويات الوطنية، والتقاليد المحلية، مستعيناً بوسائل الإعلام المختلفة، وأنظمة التعليم الحديثة، والصناعات الثقافية كالسينما، والموسيقا، وغيرها. أما الآخر الرقمي فقد برزت له أشكال جديدة تتمثل في السيطرة على البيانات، والمعلومات، وفرض المنصات، والتطبيقات الرقمية العالمية على المستخدمين في بلدان العالم أجمع، والنامية منها على وجه الخصوص.
وكل هذا لا يكفي بعد أن برز في العقود الأخيرة مصطلح جديد لظاهرة تثير جدلاً واسعاً حول دور الشركات العالمية في التأثير على البيئة، والموارد الطبيعية في البلدان النامية تحت مسميات خضراء مثل: الطاقة النظيفة، والمتجددة كالطاقة الشمسية، وطاقة والرياح، والزراعة العضوية، والحفاظ على البيئة، وغيرها.. إنه (الاستعمار الأخضر).. لون مبهج يشجع على استغلال ثروات البلدان.
هذه الأشكال الجديدة، والمبتكرة للاستعمار، والتي تطوّرت من النماذج التقليدية إلى غيرها أكثر تعقيداً، وخفاءً في عصر العولمة، باتت مواجهتها هي الأخرى تتطلب أشكالاً جديدة تبتكرها الحكومات، والمجتمعات المدنية لتعزيز السيادة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والبيئية.
صحيح أن فكرة استعمار الآخر ليست بالحديثة فهي قائمة منذ أقدم العصور إلا أنها تبدلت، وتغيّرت على مدى هذه العصور لتصبح بالتالي أكثر ذكاءً، ودهاءً، وهيمنةً، وإيذاءً، وهذا الأخضر منها لعله الأكثر خطورة، وقد مهد لنفسه بغزو فكري، وثقافي كبوابة واسعة له للدخول منها، وهو يستخدم آليات جديدة تستهدف عقول الشعوب، وثقافاتها عند فرض أنماط ثقافية، وقيمية معينة، وتحت ذريعة المساعدات، والتنمية، والمشاريع البيئية. وتنطلق هذه الآلية من الادعاء بأنَ أنماط الحياة في الدول النامية غير متوافقة مع معايير التنمية المستدامة، والحفاظ على البيئة، والهدف منها في جوهره هو إرساء نموذج حياتي جديد يتماشى مع المصالح الاقتصادية، والسياسية للدول المتقدّمة.
إن هذا الاستعمار الأخضر ليس مجرد تأثير ثقافي، أو اقتصادي، بل هو وحش استراتيجية متكاملة تهدف إلى إعادة هيكلة المجتمعات النامية بما يتوافق مع الرؤى، والمصالح الغربية. وما بين المواد الخام التي تشتريها الدول الصناعية الكبرى من دول بعينها بأبخس الأثمان لتعيدها إلى الدولة الأم بعد تحويلها إلى منتجات صناعية متطورة سلعاً مستوردة بالقطع النادر، وبأثمان باهظة -ربما- أقول بين هذا وذاك يتم استنزاف ثروات الدول النامية في ظل نظام اقتصادي عالمي، ونظام تجاري لا يرحم، ويخدم مصالح الغرب على حساب مَنْ يتم استغلاله، فينتقل بالتالي جزء كبير من الثروة الحقيقية للدول النامية إلى الأخرى المتقدّمة، وتتسع معها الفجوة التجارية لصالحها.
نزيف مستمر لموارد دول نامية، وتراكم لديون خارجية، يتسبب به هذا الأخضر الخدّاع من أشكال الاستعمار، ويضع بلداناً في دائرة مفرغة تظل تدور فيها ما لم تتبن نماذج تنموية ذاتية قادرة على تحفيز الصناعات المحلية، وتنويع الصادرات وتعزيزها بكفاءات فنية عالية القدرات، وبناء قطاعات صناعية وخدمية متنوعة، وبإصلاحات جذرية في النظام الاقتصادي تكون أكثر عدالة، وقدرة على صدّ محاولات النهب التي يقوم بها الاستعمار الأخضر.