في الحديقة الهندية بكيت

الملحق الثقافي- فرات إسبر:
أبحثُ عن بلادي، عن وجهها بين المدن، أراها بلادي ولا أراها، يختلط ُ عليَّ الزمان والمكان، أحياناً أنسى نفسي وأنا أمشي في شارع « كوين ستريت».
أرى البحر يمتدُ أمامي، هكذا أتذكرُ حارتي القديمة، بيتنا، في جبلة حيث الشبابيك تطل على البحر الذي أَضاع فيه السلطان إبراهيم إبرته، لتظهر لي سمكة ذهبية هي تماماً التي أعادت لإبراهيم إبرته.
هنا في كوين ستريت، لا يوجد جيران لنشرب معهم القهوة صباحاً، هنا لا رجال ينظرون إليكِ ويسألون، أأنت الشاعرة؟
أمام المدرسة الرئيسية في الحي الذي أسكنه يوجدُ نصبٌ تذكاري لشهداء شاركوا في الحرب العالمية.
نيوزلندا، هذه البلاد البعيدة شاركت في هذه الحرب وانتهت بنصبٍ تذكاري واحتفالات سنوية، استذكارا لشهداء قضّوا في الحرب، كنت وما زلتُ أرى حتى هذه اللحظة ُأثار الحروب على جسد بلادي، من حرب حزيران والخيبات العربية إلى حرب تشرين، إلى حرب لبنان، إلى هذه الحرب الكونية التي أخذت في طريقها كل تاريخٍ وحضارة من آفاميا إلى تدمر زنوبيا، إلى إلانسان، أخذت في طريقها كل أميرات الشام، هنا لا أساور ولا حرير، البلادُ كَبتْ كمثل حصان حزينٍ.
في كل عامٍ تقوم الإحتفالات، تُوضعُ الورودُ على النصب التذكاري الذي ارتفع حتى كأنه يعانق أرواح الشهداء بعطرٍ ووردٍ من كل أرجاء البلاد.
أشهقُ وأشهق ُعلى بلاد ٍمفجوعةٍ بكل ما فيها.
هنا أرى النصب وقد ارتفع عالياً ومع ذلك لا يكفي كي أسجلَ عليه أسماء الذين سقطوا، أسماء النساء السبايا والمخطوفات والأرامل والشهداء وعناوين البيوت التي تهدمت ولا أيُّ ذكرى وأيُّ عناق أحّيا ،فأنا في مكان وروحي في مكان.
أين مفاتيح الأسرار؟
أريد أن أُكتب الأسماءَ وأعيد سيرتها من جديد.
قالت لي صديقتي النيوزلندية:
يوجد أسماءٌ عربية يا فرات، العرب شاركوا في الحرب العالمية، واسماؤهم معلقة على النصب نستعيدهم مع أبطالنا الذين ماتوا بعيداً. شكرتها وقرأت معها الأسماء، ولكنني لم استطع تحديد جنسياتهم ولا من أيُّ البلدان، ربما هم من المغاربة الشجعان الذين جندتهم فرنسا، أو من العرب الذين تم تجنيدهم تحت راية الدولة العثمانية.
إنّها الحربُ، الحرب ُ التي لا تترك وراءها إلا الشهداء بعيداً عن أرضهم وأوطانهم ويخلدون بأسمائهم في بلاد تجهل قراءة اللغة العربية.
ما أقساكِ أيتها الحروب، في أعماقنا ألفُ «سفر برلك « أما تكفينا هجرات الروح، وضياع الهوية، من سيعيد التاريخ َبلا تزوير، ستشهدُ الأرض على الموتى الذين عبروا بدون أسماء، إذ لا جثث ولا هويات وإّنما الذبح والحرق والتهجير وكأننا في زمن استعادة دولة الهمجية.
أيتها الأمصار والبلدان، يا من تحملين وجهي وكل الجروح فيه، حيث الأسىّ علامة سورية بامتياز، لن أنسى ابداً ذلك الوجه المغربي الذي ضمني وقال لي» أنت في بيتك الآن»
كل ما أرى وردة ً وغصناً أتذكرُ بلادي، هنا في شارع فكتوريا الذي يتقاطع مع «كوين ستريت» باشارات مرتبةٍ ومنظمةٍ ، أتذكر كيف كنت ُأقطع جسر فكتوريا السوري عابرة جسر الرئيس، راكضة على اقدامي، كي ألحقَ السرفيس، والمحاضرات في كلية الحقوق، هناك كنت أشم رائحة الغبار والكاز والمازوت وأصوات الباعة والطلاب الذين يقطعون الجسر من أوله إلى آخره على أقدامهم حيث كلية الحقوق شامخة كإرث سّوري عتيق.
رغم الغبار والفوضى وأصوات السيارات، ما زلتُ أحنُ إلى ذلك الماضي الجميل إلى تلك الفوضى التي كانت تملأ حياتي.
لم تعد تهمني إشارات المرور ولا الزهور، كلها اختفت صارت أكاليلاً للشهداء
انتهت الزهور، ماتت الحقول وجف بردى وأزدادت أحزان أحمد شوقي ونحن معه نردّد ُ:
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ

شربنا الكثير من الدمع وهتفنا كثيراً على جسر فكتوريا ودعونا الله كثيراً أن ننجح في امتحانات السنة الأخيرة.
هي بلاد ي، أشتاق إليها كما يشتاق الورد إلى أمه الزهرة، كما يشتاقُ الحنين إلى الحنين، لتراني أصرخ في أعماقي:
أنا الغريبةُ أجيدُ اللغات والكتابة، ولكنني لا أجيد قتلَ الحنين.
أيّها البطل الشجاع، يا حنيني دائماً تقتلني وأنا أسقط خوفاً على تلك الجسور من أن يهدمها صعلوك جاهل وبدوي جاهل.
لا أدري ما هذا التوهج الذي يصيبني، أحب الفلسفة وأربط الاشياء ببعضها وأحللها، إنها تشبه عقدي النفسية تماماً، عندما أسير في شارع ٍغريب تتشابك عندي الشوارع، فلا أدري في أي منها أنا، هل أنا على شارع فكتوريا النيوزلندي أم على جسر فكتوريا السوري، وأصبح خليطاً معجوناً بكلا الجسرين، هنا أرى أولادي وهناك أرى أهلي وطفولتي، وما بين الجسرين أقف ُ تائهةً بلا هوية أنتمي إليها، إلا هوية القلق.
في حدائق «هاملتون» كانتْ مارلين مورنو تتربع ُعلى صدر حديقة الحداثة بفستانها القصير وحمرة شفتيها التي قَبلتْ بها كنيدي الذي اغتالوه ربما بسببها. أكيدٌ هذا ليس صحيحاً، أقول في نفسي وإنّما نعزي في الرجال العظماء:
الحب ُ يقتلُ النساءَ والسياسة ُ تقتلُ الرجال.
في حديقة مارلين مورنو الأميركية ترى الحداثة حتى بالزهور والصخور وبرك الماء، امرأة بتمثال من الموزاييك تتربع على ضفه نهر «وايكتوا « أطول أنهار نيوزلندة وعلى ضفتيه تتعدد الحدائق وفي كل حديقة ترى تماثيلَ وأزاهير تعبر عن شعبها.
ماوتسي تونغ لم يكن في الحديقة الصينية ربما الجيل الجديد يكرهُ الشيوعية، وهنا لا يحبذونها ويعتبرونها كلمة معيبة، أحزن على كارل ماركس في زمن صارت الشيوعية وصمة عار في بلد رأسمالي.
تأتينا الرسائل بالبريد العادي والبريد الإلكتروني « تبرعوا لحدائق هاملتون « نشكركم لإضاءة مدينتكم بالزهور، أفرح وأبكي في نفس الوقت، أصرخُ هذه الصرخة العميقة التي في داخلي وكأنها سيف عربي كان قد شطرني نصفين، نصف تركته على ساحل البحر الأبيض المتوسط ونصف هنا معي في أحضان المحيط الهادي، حيث الجزر تمتد في أحضان المحيط وكأنهن سباياه في زمن التحول حيث انشطرت القارات عن بعضها البعض لتخرج منها اوستراليا ونيوزلندة حيث أنا هنا بجسدي وهناك بعقلي وشعوري وعاطفتي.
في البلاد البعيدة.. التي يبستْ حدائقها من ملح الدمع الذي هطل من عيون المهجرين فيها، حيث لا باب، لا أبواب، فقط ملح الدمع يغسل القلوب ويجففُ الأرضَ، تلك حدائق بلادي التي صارت مسرحاً للموت والمهاجرين من كل أطراف البلاد.
أشعرُ بغيرةٍ قاتلة وبعض الحقد. لماذا بلادي لا تشبه غيرها من البلدان؟
وفجأةً أصحو وأنا أعبرُ في الحديقة الإيطالية، هنا يكمنُ سحر الفن، المسروق من سحر الشرق.
إنهم لا يعرفون بلادي، وأكثر من مرة يسألني أحدهم هل أنت إيطالية، وآخر هل أنت مكسيكية؟
والبعض يعرف ملامح النساء الشرقيات، فيسأل هل أنت عراقية، وكيف الحرب في بلادك مع صدام حسين ولا يعلمون نهاية بطل لم يكن شجاعاً؟
يبدو أنني العربية التائهة، فلا حداثة مارلين مورنو منعت دمعتي، ولا سحر دافشني أعطاني القوة في أن أتمالك بكائي وشهقتي لأقول أنا من بلاد ساحرة، ولكن الذئاب تعضها اليوم، أنا من بلاد أم الأبجديات.
في الحديقة الهندية بكيت .. كانت الزهور فيها وكأنها مهرجانُ لا أثر للحداثة فيه، إلا في عطر الزهور الذي يفوح من كل الألوان، حتى أن الزائر يشعرُ أنه في الجنة الموعودة، في حدائق طاغور.
من الحديقة الهندية عبرت إلى اليابانية الساحرة وكأنها هايكو كتبها شاعر بعد حروب طويلة قضاها في كتابة الشعر حتى يصل إلى هذه اللحظة الشعرية الخالدة والتي تتمثل بحديقة يابانية يجعلك الورد فيها مسحوراً بألوانه الغريبة، وهكذا وأنا أعبر بين الحدائق التي تنام في أحضان هاملتون، التي تجلس على أكتاف نهر «وايكتو « عدت مسرعةً إلى الحديقة الهندية بعد أن تيّقنت ُ بأنه لا حدائق عربية هنا لا على الأرض ولافي السماء.
بكيتُ بكيتُ وتذكرت التاريخ والجغرافيا والأوهام والفتوحات التي كنّا نحفظها عن ظهر قلب.
أين أنت أيتها الحديقة العربية ،أيها الوطن العربي أين حدائقك ؟
أين بستان هشام ومعلقات بابل وحدائق قصر العظم والياسمين الدمشقي وحدائق الأندلس؟
في الحديقة الهندية بَكيتُ.. وبَكيتْ
و مع طاغور أنشدت:
أنا أنسى، أنسى دوماً أنني لا أملك جناحاً لأطير
وأنني مقيد دوماً بهذا المكان
إنني متّقدُ الشوق، يقظان، أنا غريبٌ في أرض عجيبة.»
الحكاية لا تنتهي كما الحنين، والقلوب معلقة في كل جهات الأرض، ونأمل أن لا نسمع زفرة عبد الله الصغير، ولتحيا بلاد ُ الأبجديات ومروج الياسمين.                         

العدد 1194 – 25 -6-2024     

آخر الأخبار
وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس