الثورة- فؤاد مسعد :
بكثير من الحب والشغف وتفاعل حار من الجمهور، أقيمت مساء أمس في دار الأسد للثقافة والفنون أمسية موسيقية تراثية بعنوان «نسماتٌ أنطاكيّة»، ببركة ورعاية صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس.. جاءت الأمسية بمناسبة عيد الكرسي الأنطاكي، وأحياها كورال الكنارة الروحية البطريركي بقيادة الأرشمندريت ملاتيوس شطاحي، بالتعاون مع أوركسترا أورفيوس بقيادة المايسترو أندريه المعلولي، ومشاركة الأب الدكتور ميشال سابا، والمغنية الأوبرالية الرومانية كاتالينا بونيللا كيلارو.
انسالت الأغاني والأناشيد بعذوبتها خلال الأمسية في تجلٍ أشبه بتسامي الأرض نحو السماء، فشدا الكورال بإحساس نابع من عمق الوجدان، وحلّقت الأوركسترا في أدائها حد التماهي معه ليظهر التناغم بينهما في أعلى مستوياته وكأنهما روح واحدة.
وبدا واضحاً الجهد الكبير ليس على المستوى الموسيقي فقط وإنما على مستوى البحث والبرمجة، فجاءت أمسية غنية في مضمونها، حاملة على عاتقها رسالة إلقاء بعض من ضوء على تراث الكنيسة الأنطاكية، الضاربة جذورها في عمق الأرض حضوراً راسخاً، ولعل أحد أوجه أهمية ما قُدّم تنبع من كونه أماط اللثام عن مجموعة أعمال موسيقية «قليلة التداول»، تشع إبداعاً على مستويي الكلمات والألحان، وتحمل من عبق الأصالة الكثير.
الجذور المتأصلة
بدأت الأمسية منذ لحظاتها الأولى مُظهرةً ما تم تقديمه عبر التاريخ من إسهامات حضارية، مشددة على التمسك بالأرض، ووطنية الكنيسة الأنطاكية التي انطلقت من هذه الأرض وباقية فيها.
رافق الفقرات رؤية بصرية في خلفية المسرح، كانت على شكل صليب وفي داخله يعرض فيديوهات تتماشى مع كل عمل يُقدم، وتمت مراعاة عرض عدة مقاطع «فوتومونتاج» على الشاشة، يحكي كل منها عن شخصية مؤثرة وفاعلة من الكنيسة الأنطاكية، وكانت لها بصمتها في الترنيم والموسيقا، بحيث قدم بعد كل شخصية تم التعريف بها بعضاً من أعمالها الموسيقية.
الانطلاقة كانت من «بالله يا أنطاكية» تأليف وألحان انطوان حسني، ثم «قل لمن يسأل عنا» تأليف وألحان المطران بولس الخوري، وحمل هذا العمل بين طياته الكثير من الشموخ والأنفة والحماس.
عرض فيما بعد «فيلم فوتومونتاج» عن متري المر «1880 ـ 1969 « الذي كان له أثره الكبير في الموسيقا وتخرّج على يديه الكثير من الموسيقيين، وهو المرنم الأول في الكرسي الانطاكي.. ونظم ولحن النشيد الوطني السوري الأول «نادت الأوطان هنا»، ونشيد «يا بلادي»، وتم تقديم العملين في الأمسية، إضافة إلى أغنية «تعالي إلي» من ألحانه وتأليف خليل تقي الدين، وأغنية «يا فلسطين» تأليف وألحان متري المر.
أثر ثقافي ووطني
تلا ذلك فيلم «فوتومونتاج» عن المطران أبيفانيوس زائد «1880 ـ 1982» الذي كان له أثره الثقافي ومواقفه الوطنية، حيث، عارض التقسيم إلى دويلات صغيرة، وقال في ذلك نشيده الشهير «يا بني قومي صعوداً.. وارتقوا أعلى الذرى»، ومما جاء فيه:
إن سورية فتاةٌ حبها كل الأمل
ما لسورية نجاة إن غدت بضع دول
ليس للعضو حياة إن على الجسم انفصل
بل ذبول وممات واندثار في العجل
العمل الموسيقي السابع في الأمسية كان قصيدة «الربيع» تأليف وألحان المطران أبيفانيوس زائد، تبعته أغنية «أشكري» من تأليفه وألحان متري المر.
ثم عُرض «فيلم فوتومونتاج» عن الأب الدكتور ميشال سابا، وهو شاعر ومؤلف موسيقي وعازف على آلة العود، له خمسة دواوين شعرية وتآليف لاهوتية وكتاب للأناشيد وبعض الترجمات للخدم الطقسية. أتى من قبرص ليكون حاضراً بشكل شخصي في الأمسية، حيث غنى وعزف على العود «أريج الزهر» وهي من تأليف شارل خوري وألحان أحمد الأوبري، بدأ غناء المقدمة بصوته وعزفه المنفرد «وهي من تلحينه» ثم أكمل برفقة الكورال والأوركسترا.
أناشيد وتكريم
قدّم الكورال بعد ذلك «كراتيما» وهي لحن بيزنطي بأصوات بشرية فقط، ليشكّل فاصلاً للانتقال إلى القسم الثاني من الأمسية الذي ضم أناشيد وصلاة.
عُرض «فيلم فوتومونتاج» عن المطران أثناسيوس عطالله «1853 ـ 1923»، الذي سعى بدأب بعد انتخابه مطراناً على أبرشية حمص على بناء المدارس، كما أنشأ في حمص عام 1896 أول دار للكتاب وأول قاعة للمطالعة، فكانت مكتبة للجميع، كما أسس أول مسرح في حمص، نظم قصائد دينية، منها «افرحي يا بيت عنيا» التي ترجمت إلى عدة لغات.. وتم تقديمها في الأمسية باللغتين، العربية بصوت كورال الكنارة، وبالرومانية بصوت المغنية الأوبرالية كاتالينا بونيللا كيلارو .
فيلم الـ «فوتومونتاج» الأخير كان للمغنية الأوبرالية الرومانية كاتالينا بونيللا كيلارو، الذي عرّف عنها وعن مسيرة عطائها، ثم قُدِمت صلاة «أبانا الذي في السموات» بالروماني والآرامي، تلا ذلك نشيد «عذراء يا أم الإله» بكل ما فيه من حالة خشوع، وهو من تأليف وألحان القديس نكتاريوس، وجاء بصيغة ديو باللغتين العربية والرومانية ومرافقة الكورال، وبدا فيه جلياً إبداع التوزيع الموسيقي الأوركسترالي له والتناغم العالي بين الأوركسترا الموسيقية والكورال.
تحدث بعد ذلك صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر واصفاً الموسيقا بأنها لغة الملاك، وأنهم في الأمسية «رفعونا إلى السماء»، موجهًا الشكر للكورال والأوركسترا، معايداً بعيد الكرسي الأنطاكي، ثم قام بتكريم كل من الأب ميشال سابا والمغنية الأوبرالية «كاتالينا» والمايسترو أندريه المعلولي والأرشمندريت ملاتيوس شطاحي.
شخصيات أنطاكية
حول خصوصية برنامج الأمسية تحدث لصحيفة الثورة الأرشمندريت ملاتيوس شطاحي قائد كورال «الكنارة الروحية»، قائلاً: نبع برنامج الأمسية من مضمون العيد الذي تحتفل به في الأمسية، وهو عيد الكرسي الأنطاكي، وبالتالي البرنامج موجه ليسلط الضوء على شخصيات أنطاكية كان لها مساهمات ليس على الصعيد الروحي فقط وإنما على الصعيد الثقافي والوطني والاجتماعي، لذلك تضمن برنامج الحفل عدة قطع من أغانٍ وأناشيد، ولم يتضمن تراتيل، وحاولنا عبر هذه الأغاني أن نركز على المؤلفين الأنطاكيين الثلاثة «متري المر، المطران أبيفانيوس زائد، المطران أثناسيوس عطالله». ونجد في البرنامج نشيد «نادت الأوطان هيا» الذي كان النشيد الوطني السوري قبل «حماة الديار»، في حين كان «يا بلادي» نشيد الحربية السورية وردده يوسف العظمة مع رفاقه وهم متوجهون إلى معركة ميسلون.
وعن تجربة ترافق الموسيقا الآلية مع ترانيم بيزنطية، أكد أنه لم يكن هناك أية مرافقة موسيقية للترانيم البيزنطية، يقول: لم يكن في الأمسية إلا ترنيمة واحدة قدمها الكورال من دون موسيقا.. أما باقي المقطوعات فهي أناشيد وليست تراتيل كحال «عذراء يا أم الله»، وصلاة «أبانا الذي في السموات» والتي وفق «التراث» في رومانية يتم ترتيلها في الكنيسة، فحاولتا الدمج فيها بين اللغة الرومانية بصوت «كاتالينا» واللغة الآرامية، وجاء هذا الدمج طبيعياً طالما أننا نقول أناشيد وليس تراتيل تُرتل في الكنيسة.
التراث السوري
في حديثه إلى صحيفة الثورة أكد قائد أوركسترا أورفيوس المايسترو أندريه معلولي أن التعاون بين الأوركسترا وكورال الكنارة الروحية ليس الأول، يقول: كان هدفنا الحفاظ على أصالة الطقس البيزنطي وقدسية الأناشيد، وتم العمل على دمج الموسيقا الآلية مع موسيقا الصوت البشري، حيث كانت تُقدم الأناشيد في الكنيسة الأرثوذكسية كصوت بشري ولكننا قدمناها اليوم كعمل فني متكامل، واشتغلنا كثيراً على موضوع التوزيع الموسيقي للقطع وممن عملوا ضمن هذا الإطار الأساتذة «ناريك عجميان، مروان أبو جهجاه، كمال سكيكر».. وقد ضم البرنامج عدة أنماط لحنية، وقادنا كل عمل لأن نشتغله موسيقياً بالطريقة التي تناسب الكلام واللحن، لنحافظ على اللحن والمقام وكل التفاصيل حتى الدينية.. وبشكل عام الموسيقا البيزنطية تراث سوري، وواضع أسسها ونظمها القديس يوحنا الدمشقي، وبالتالي هي خرجت من هنا، ونحن نوثّق أنها تراث وخرجت من هذه الأرض.