الثورة – ديب علي حسن:
أتيح لي صباحاً- مع نعمة الساعة من الكهرباء- أن أتابع ما تبقى من برنامج المجهر الذي يعده الأستاذ إياد خلف، وكان ضيفه رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد الحوراني، ومجموعة من الشباب، أظن أن عنوان الحلقة كان حول سبل مواجهة الليبرالية الجديدة التي تغزونا من كل حدب وصوب.
وسأتوقف عند بعض النقاط المهمة التي سمعتها فيما تبقى من الوقت، وقد تحدث بها الدكتور الحوراني.
كان جريئاً كالعادة في تشخيص الأسباب وطرح الحلول؟ لم يجامل أبداً.. مؤسساتنا الثقافية المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر لا تعمل وفق إستراتيجيات ثقافية وتربوية وتنويرية.. وقّع الاتحاد مذكرات تفاهم مع جهات كثيرة، لكن للأسف لم يفعل إلا الجزء اليسير منها.
ثمة من لا يريد أن يعمل ولا يهمه العمل الثقافي أبداً بل يظن أنك تنافسه لتأخذ مكانه.
في العمل التنويري التثقيفي لابد من تشاركية حقيقية بين المؤسسات كافة
لابد من إستراتيجية ثقافية تضعها الدولة ويعمل الجميع وفق خطوطها.
وكان لافتاً الحديث عن إحجام رأس المال السوري عن المشاركة أو دعم الفعل الثقافي أو رعايته مع أنه في العالم كله يوجد مثل هذا بل يفتخرون به.
وتأسيساً على ما قاله الدكتور الحوراني، نشير إلى أننا منذ خمسة عشر عاماً، وربما أكثر، كنا قد أعددنا ملفاً في صحيفة الثورة حول ضرورة وجود إستراتيجية ثقافية ترعاها الدولة وقد تباينت حينها الآراء في ذلك بين مؤيد ومعارض لها.
أما رأس المال الذي يغدق على كل ما ليس ثقافياً ويحجم عن الرعاية الثقافية والإبداعية فقد كتبنا عنه منذ أربعة أعوام، وتمنينا أن يبادر رأس المال السوري إلى أن يكون راعياً حسب استطاعته، ولكن لا حياة لمن تنادي ولا بأس أن نستعيد هذه الدعوة التي كانت في تشرين الثاني ٢٠٢٠ م وفي الصفحة الثقافية -جريدة الثورة، وتحت عنوان:
(لماذا يحجم رأس المال السوري عن دعم الثقافة..؟)
ثمة مقولة يرددها الكثيرون، أن رأس المال جبان لا يتجه إلا نحو الريع المباشر والسريع.. تبدو هذه المقولة وكأنها قدر لدينا، لكن الواقع يقول إنها ليست إِلَّا في عقول من لا يعرف ألف باء العمل الحقيقي، وهي غالباً نوع من الهروب عن دعم المشاريع الحقيقية في التجارة والصناعة والثقافة والحياة.. أي مشاريع تؤسس لتحولات مهمة في المجتمع.
والدليل على ذلك أن معظم رأس المال العالمي يستثمر على التوازي في صناعات واستثمارات بعضها قد يبقى عقوداً من الزمن حتى يبدأ برد جزء من تكلفته..
في دور النشر والصحافة والسينما والتوثيق وصناعات ثقافية كثيرة تؤسس لمجتمع متطور مثقف.. بل إن بعض رأس المال الخاص أنشأ وأدار جوائز ومعاهد ومراكز دراسات بحثية ورعى كتاباً ومفكرين ومبدعين واعلاميين، وقدم لهم منحاً مالية لمتابعة أبحاثهم واطلاعهم على تجارب الثقافات الأخرى.
هل نذكركم بالمنحة التي قدمتها منذ بدايات القرن الماضي لجبران خليل جبران لمتابعة دراسته في باريس… وعندما أراد أن يرد جزءاً من الدين.. قالت له ما قالت… وقس على ذلك الكثير ..
حتى الشركات العالمية تخصص جزءاً من أرباحها لدعم النشاطات الثقافية والاجتماعية والفكرية وترعى طلاباً وباحثين ومفكرين، وتتولى نشر نتاجهم وفكرهم، لأنهم خير الوسائل للوصول إلى آفاق جديدة في العالم..
وفي الدراسات حول جدوى الثقافة في الترويج للأعمال تبين أنها الثقافة.. الأكثر عمقاً وتأثيراً، ولاسيما عندما يكون الاستثمار في اللغة…
في الوطن العربي تبدو الظاهرة خجولة جداً مع وجودها في بعض دول الثراء النفطي وبغض النظر عن الكثير مما يشوبها لكنها موجودة وأخذت دوراً ما..
أما في سورية للأسف ليست موجودة على الإطلاق.. لا من قريب ولا من بعيد، بل يمكن القول إن الكثير من المكتبات العامة المهمة عمل مستثمرون على تحويلها إلى صالات تجارية ومولات في دمشق التي كنت تجد عند كل زاوية مكتبة أغلقت العشرات منها.. وربما مازالت عيون البعض على إغلاق ما تبقى وتحويلها إلى رأس المال الريعي السريع في العالم يسعى دائماً إلى تجذير وجوده من خلال دعم النشاطات الثقافية والفكرية، والاتجاه نحو ترسيخ صناعات ثقافية متعددة.. إِلَّا عندنا تجد الأمر مختلفاً يبحث عن ريعيات أكثر سرعة..
على مدى عقود من متابعة المشهد الثقافي السوري لم نر أو نسمع أن مؤسسة أو منشأة اقتصادية أو تجارية سورية مولت ودعمت عملاً ثقافياً فكرياً إبداعياً.. لا طباعة كتاب ونشره ولا تمويل بحث ما.. بل حتى شركتا الخلوي في سورية تشتركان بالحالة نفسها…
رأس المال موجود، والأرباح التي حققها البعض كبيرة وخرافية، بل متوحشة… يستوردون لبن العصفور مهما كلف لكنهم لا يقدرون على تمويل فعل ثقافي.
لا ينقصهم الثراء والمال..
بل بكل صراحة ما ينفقه أحدهم على وليمة ما تصل تكلفته أضعاف أضعاف ما يمكن أن يحتاجه نشر كتاب مهم أو رعاية عمل آخر، ولاسيما أن الكثير من مؤسساتنا الثقافية ابتليت بعقلية متجمدة تكلست عند فكرة ما ولنا عودة إلى ذلك..
المؤسسات الاقتصادية والتجارية السورية الخاصة والعامة مقصرة تماماً في هذا المجال، وهذا غير مسوغ، ومن حقنا أن نسأل الكثير من أصحابها ألم تزوروا العالم وتطلعوا على تجاربه في هذا المجال.
لماذا لا تردون بعضاً من دين الناس لكم.. بل لنقل نوعاً من تزكية وتعقيم أرباحكم وتطهيرها.. إن كانت تحتاج ذلك وأنتم أدرى..
من الضرورة بمكان أن يتم إلزام مثل هذه المؤسسات على تخصيص جزء من أرباحها لدعم الثقافة، وبالوجه الذي يحفظ لها أن تستفيد من ناتج هذا العمل..
توحش رأس المال وطغيانه على كل مظاهر حياتنا أسوأ بكثير مما نتوقع، ولاسيما أن نتائج ذلك بدأت تظهر بقوة على أرض الواقع ولاسيما فرنجة الأسماء والمصطلحات بظل غفلة ممن يعنيهم الأمر وانشغال بعض المؤسسات الثقافية بإعادة تسويق ما تم تسويقه مرات ومرات وتحت تسميات مختلفة، لكن النتيجة واحدة المراوحة بالمكان… هل ننتظر دعماً للفعل الثقافي من قبل رأس المال السوري).
وإذا كان لابد من كلمة حول تغول رأس المال فلا مناص من القول إنه يصنع الليبرالية ليس الجديدة بل العفنة، فالمال الذي ليس فيه شيء للإنسان والوطن وهو مجرد أرقام تتراكم تسلبنا قدرتنا الاجتماعية هو أسوأ أنواع الاستغلال.