الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
إنها مسيرة حافلة بالعطاء لفنان مبدع متعدِّد المواهب. اتَّسمت أعماله بالصدق، والإحساس العميق، واللون الصريح الواضح ذي الدرجات النضرة النشيطة في أغلب الأحيان، والشكل النابض بالإيقاعات، والخطوط الثابتة الدافئة المتناغمة، وألوان العيد المبهجة.
إنه الفنان المؤسِّس محمود حمَّاد الذي بدأت مسيرته الفنية في الابتدائية ثم الإعدادية في المدرسة الإيطالية بدمشق، المعروفة بثقافاتها المرتبطة حيوياً وتاريخياً بالفن، حيث استهلَّ مشواره الأول على يد الراهب الأب «لود فيكو عام 1939»، ثمَّ تابع المرحلة الثانوية في مدرسه التجهيز الأولى بثانوية جودت الهاشمي، وكان يلقى كلَّ التشجيع من المشرفين على تدريس الفن في كلِّ مرحلة من المرحلتين فجذب الانتباه إليه بقوة من بين كلِّ التلاميذ نتيجة تفرُّده في مادة الرسم والتلوين، كما تفوَّق في المقررات العلمية والأدبية، وذهب إلى إيطاليا، وهو في سن السادسة عشرة بهدف الاطلاع على الفن، وأتقن اللغات: «الإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية» إلى جانب اللغة العربية الأم، ولكن سرعان ما اضطرَّته ظروف الحرب العالمية الثانية إلى العودة لسورية، فقام في أواخر عام 1939 بعرض مجموعة لوحاته في اِحدى قاعات معهد الحقوق بدمشق «بناء وزارة السياحة حالياً، وفي تلك الحقبة التقى بالفنان نصير شورى وتوطَّدت بينهما صداقة متينة.. دامت حتى نهاية حياتهما، إذ اشتركا في عام 1940 بتأسيس مرسم «فيرونيزه» في ِاِحدى حارات شارع العابد بدمشق مع عدد من روَّاد الفن التشكيلي في سورية، وشاركا في تأسيس الجمعية السورية للفنون عام 1948 في أبي رمانة، وفي ذاك الوقت اقتنى نصير شورى مرسماً في حي الروضة، وكان محمود حمَّاد يتردَّد إلى ذاك المكان ليُعلِّم الناشئة الفن، ثمَّ أقام الفنانان عدداً من المعارض المشتركة في حلب عام 1951..المدينة التي كان حمَّاد يُدرِّس الفنَّ في ثانوياتها، ومن اللوحات التي لاقت الرضا آنذاك «قارئة الفنجان، وأمير البزق».
أما في معرض الخريف الأول المُنظَّم في متحف دمشق سنة 1950 فقد نال حمَّاد الجائزة الأولى على لوحة «معلولا»، وظلَّ يُشارك في معارض الخريف المتوالية.
وفي عام 1953 نظَّم معرضاً فردياً في مقر الجمعية السورية للفنون، ثم أوفد إلى روما لدراسة فن التصوير الزيتي في أكاديمية الفنون الجميلة، فدرس «فنَّ التصوير الجداري والحفر وفن الميدالية».
وفي روما شارك في معارض عديدة، ونال حزمة من الميداليات والجوائز، وتوطَّدت علاقته مع الفنان أدهم إسماعيل، وسافرا معاً برحلة إلى إسبانيا للاطلاع على الفن الأندلسي، وفي الفترة ذاتها اقترن بالفنانة التشكيلية اللبنانية «دريَّة فاخوري».
قال الفنان: «أنا لست فناناً كبيراً، ولكنني بالتأكيد فنان مجتهد أُلاحقُ عملي ملاحقة العاشق، ومثابرة المدمن، يحدوني في ذلك أمل دائم باكتشاف معنى جديد أو صيغة مُبتكرة. ومن هنا ترى الهدف أمامك تُمسك به طوراً؛ ويفلت منك أطواراً، ذلك يُفسِّر الإصرار والعناء في استمرار بحثي خلال أربعين عاماً ونيِّف، بما فيها سنوات التردُّد والحيرة».
إنَّنا بالتأكيد نستطيع تقسيم مراحل حياة الفنان إلى أربعة أقسام تمتدُّ الأولى من عام (1939 إلى 1953) غلب عليها الطابع الواقعي الانطباعي في الرسم.
أما المرحلة الثانية فتمتدُّ من سنة (1953 وحتى 1957)، وهي السنوات التي ذهب فيها الفنان إلى إيطاليا، ونهل العلم في فنون: «التصوير، والميدالية، والحفر، والفريسك»، والثالثة من سنة (1958 وحتى 1963)، وتعتبر المدَّة التي درَّس فيها الفن بمدارس درعا.
في حين امتدَّت المرحلة الأخيرة من عام (1964 وحتى 1988)، وتُعتبر هذه المرحلة فترة اهتمام محمود حمَّاد بعناصر الكتابة العربية وتحولاتها في اللوحة.
أما الفترة التي قضاها من عام (1943 وحتى 1945) فكانت مرحلة تجريبية لم تحمل أعباء الالتزام الأسلوبي أو الثقافي، كما تميَّز إنتاجه الفني بالغزارة والجودة والتنوع الفكري والجمالي والثقافي، النابع من صفاته الشخصية.. أهمها في السياق ذاته: التنظيم الذهني والعملي. وتعدُّد مصادره الثقافية بفضل إتقانه للغات الثلاث: «الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية». وقد قارب إنتاجه إلى 4000 عمل فني، منها: لوحات زيتية على القماش والخشب، ومائية، ورسوم تخطيطية، ونحت نافر، «ميداليات، وجداريات»، وأعمال نُصبيَّة مع الرسوم التحضيرية، ومجموعة كبيرة من التصاميم لطوابع أو كتب وعناصر تزيينية بجانب اهتمامه بالخط العربي، نظراً لارتباطه بالتجريد عبر الحروفية بنشأة ما يُسمَّى اصطلاحاً الحداثة العربية، وهنا لا بدَّ من القول: إنَّ البلاد العربية لم تشهد جميعها تاريخاً واحداً للحداثة، وذلك لأسباب وظروف كلِّ بلد عن الآخر، واختلاف تاريخ نشوء المدارس أو الكليات الفنية.
قال الفنان محمود حمَّاد في المؤتمر العربي للاتحاد العام للتشكيليين العرب في بغداد عام 1973: (إنَّ الحركات الفنية في مختلف أقطار الوطن العربي في نمو متسارع، ومن خلال الاحتكاك والتبادل الفكري الذي نلاحظه اليوم بين فنانيها سنصل ولا شكَّ إلى تلك الهوية العربية والتي طال الحديث عنها، والتي يجب أن تتميَّز بصفات المعاصرة لتقف جنباً الى جنب مع أرقى فنون العصر).
اشتغل محمود حمَّاد على مشاريع أعمال نصبية أُنجزت أو كان من المخطط إنجازها في المحافظات السورية، ويُمكن الاطلاع على المخططات والرسوم التمثيلية لمشروع نصب مدينة الطبقة في شمال سورية ضمن أرشيف الفنان.
محمود حمَّاد أحد الروَّاد المؤسِّسين لحركة التجريد العربي، ومؤسِّس كلية الفنون الجميلة، ومن مؤلِّفي مناهجها، واستمرَّ في التدريس لطلابها حتى غزا الشيب رأسه، فاستحقَّ بجدارة وسام الاستحقاق السوري في الفنون والآداب عام (١٩٧٩)، ووسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام (١٩٨٩) بعد وفاته، إلى جانب منحه وسام الجمهورية الإيطالية بدرجة فارس عام (١٩٧٥).
العدد 1199 – 30 -7-2024