الثورة – فؤاد مسعد:
مجموعة من الأفلام القصيرة كانت كفيلة بإعطاء تصوّر أوّلي عن المستوى الذي وصل إليه طلاب المعهد العالي للسينما، إضافة لما يتلقونه من معارف وفق منهجية متكاملة خلال سنوات دراستهم، إنه الشغف الذي يسعون إلى ترجمته بروح أكاديمية مبنية على الدراسة والتراكم، ورؤية دقيقة ومعرفة وقدرة على الإمساك بزمام إنجاز فيلم قصير ليخرج بأفضل صورة ممكنة.
هذا ما بدا عليه الحال خلال عرض عدد من الأفلام القصيرة لطلاب السنة الثالثة في صالة الدراما ضمن دار الأسد للثقافة والفنون، فقد ظهرت تجاربهم الأولى إلى النور معلنة عن مولود جديد، كان بمثابة خطوة البداية التي تُقدّم وسط إطار صحي واحترافي يؤهل صاحبها للوقوف على أعتاب مرحلة أكثر تقدّماً في حياته الإبداعية السينمائية.
أتت الأفلام غير متشابهة، لكل منها نكهته وهويته الخاصة، إن كان عبر الفكرة التي طرحت أو أسلوب تناولها وطريقة ترجمتها بصرياً على الشاشة، ولم يكن هناك ما هو مجاني أو عبثي، فكل لقطة وكل كلمة محسوبة ولها مكانها الضروري، ورغم أن الأفلام جاءت بمستويات مختلفة إلا أن العديد منها امتاز بلمعته، وقدرته على الإدهاش.
عديدة هي الأفكار التي تناولها شباب وشابات مختلفون بالتوجهات والبيئات والأفكار والمواقف، مشكّلة في مجموعها مسباراً عن آلية تفكير شريحة هامة من المجتمع السوري “شريحة الشباب”، وطريقة تعاطيها مع الواقع ومفرداته وفهمها له، وقد تنوعت موضوعات الأفلام التي تم التعبير عنها بأساليب قدمت حالة من التجريب الذي لا يخلو من الحماس المدروس والمبني على الصخر، فكانت أول الغيث، الذي جاء غنياً، في خطوة فرسانها شباب مُحب للسينما ويرغب في التعبير عن رؤاه الإبداعية ومخزونه الفكري وطموحاته وآماله وآلامه من خلال الكاميرا، ويمكن اعتبار عرض تجاربهم على الجمهور بمثابة الإعلان عن أولى خطواتهم في عوالم تضج بالألق والسحر، إنه سحر السينما الذي يستحق من محبيه التجريب وخوض المغامرة.
في مجموعهم هم نواة مشروع إبداعي حقيقي يستمد نسغ وجوده من دراسة أكاديمية منظمة، ومن جدية في التعاطي، ليكونوا مع الوقت أحد روافد الحراك السينمائي في سورية بشكل أو بآخر، وقد جمعت فيما بين نتاجاتهم سمات عامة مشتركة، وإن تم خرقها أحياناً، ولكنها شكلّت الروح السائدة في الأفلام، وتمثلت في القدرة على إدارة الممثل ومعرفة الحدود التي يحتاجها المشهد من أداء، وضبط للإيقاع، وبدا واضحاً القدرة على توظيف زوايا الكاميرا لإعطاء الدلالة المرجوة منها، وإمساكهم بالعناصر الفنية المختلفة التي تصيغ في مجموعها الفيلم في مختلف مراحل إنجازه، كما تميّز العديد منهم في قدرته على الإدهاش والتفكير خارج الصندوق.
أشار المخرج باسل الخطيب عميد المعهد العالي للسينما قبل بدء العرض إلى مقدار التحدي الذي عاشه الطلاب في إيجاد تمويل لأفلامهم، وهو التحدي الذي وصفه بالصعب.
البداية كانت من فيلم “برتقالة”، وهو مشروع جماعي مستوحى من أفلام المخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد، وجاء بمثابة تحية إلى روحه. ومن الأفلام القصيرة التي عرضت، فيلم “711” إخراج عبد الرحمن سمسمية، الذي امتلك جرأته المُستلة من معين واقع قاسٍ، فحيكت خيوط الحكاية لتطرح فكرة تمازج فيها فساد الموظف الذي يريد المال لتقديم دور العملية الجراحية لمريضة، وتنازل ابنة المريضة عن قناعاتها لمصلحة تأمين المال، ووضع والدتها الحرج الذي استوجب دخولها المستشفى، كلها أفكار تم صهرها في بوتقة واحدة طارحة الأسئلة الحرجة.
ومن الأفلام التي عرضت “بارانويا” إخراج عماد حلاق وتتبع فيه المخرج حالة مريض نفسي فاقد الثقة بالناس، يرتاب منهم ويشعر أن الجميع يراقبه ويلاحقه.
في حين حاكى فيلم “لوب في بلدي” إخراج حسام سكاف الواقع بطريقة مختزلة ومكثفة حملت دلالاتها وجرأتها وتماهي العمق مع البساطة، أما فيلم “المعاش” إخراج عبد اللطيف كنعان فاعتمد مبدعه على المفارقة ملامساً فيه الكوميديا السوداء والوجع.
قارب فيلم “رحلة إلى الماضي” إخراج ياسمين حسين بين الماضي والحاضر، من خلال مشهد تمثيلي تدور أحداثه في الماضي يتقاطع في لحظة معينة مع حدث يجري في الواقع الحالي، فحين يُمسك الممثل سيفه ليلبي صرخة المرأة التي نادت “وا معتصماه” مجسداً قصة تاريخية معروفة، تدخل كادر التصوير فتاة يلاحقها شاب في يديه مسدس، يشهره في وجه الجميع فيتراجع الممثل ويسقط سيفه أرضاً دون أن يقترب أحد لنجدتها، لنسمع صوت طلق ناري دون أن يحرك أحد من الموجودين ساكناً، ما يعكس عمق المفارقة بين زمانين، لكل منهما مفرداته ومفاهيمه.
ويأتي فيلم “عرض قلماً” إخراج نيرفانا داوود بكل ما يحمل من إحساس عالٍ وشفافية ليطرح أفكاره بإطار بسيط وعميق ومختلف، وقد استطاع ايصال مقولته بسلاسة، رغم أنه كان شبه صامت، معتمداً على الموسيقا المتلائمة مع الحدث، وخاضت فيه المخرجة تحدي الكاميرا الثابتة وزاوية التصوير الواحدة طيلة فترته الزمنية، مرتكزة على بطلين أساسيين.
لم يظهر وجه أي منهما.
أما فيلم “ذكريات في الظل” إخراج سهى عزي فكان تسجيلياً عن فتاة شغوفة بالفن الذي تعبّر من خلاله عن ذاتها، فتحدثت عن تجربتها في التصوير، معرجة عن حال صالة السينما في منطقتها، ولم يمر العمل من دون دلالات إن كان في الحوار الذي أكدت فيه على أهمية السينما والمسرح، أو عبر الصورة حيث بدا في المشهد الأول طائر حر خارج القفص وآخر سجين داخله.