هفاف ميهوب
تُعيدني الصراعات والحروب التي لا يتوقّف صنّاعها، عن جعلها تفتكُ بالحياة والإنسان وتدمّر الأوطان، ويعيدني ما تخلفه أسلحة الموت المروّعة التي صُنّعت بأيادٍ، لم يعرف أصحابها يوماً، إلا الحقد والعنف والشرّ والعدوان.
يُعيدني كلّ ذلك، إلى ما قرأته في كتاب «لماذا الحرب».. الكتاب الذي يحتوي على مناظرةٍ، كانت عصبة الأمم والمعهدُ الدولي للتعاونِ الفكريّ في باريس، قد كلّفا عالم الفيزياء الألماني «أينشتاين» بإقامتها، بعد اختيار موضوعها، والشخص الذي سيتبادل وإياه وجهات النظر حولها..
كان ذلك عام ١٩٣٢، وقد اختار «أينشتاين» عالم النفس النمساوي «فرويد» ليشاركه المناظرة التي اختار موضوعها، عن مشكلة الحرب وأسبابها، وكيفية الخلاص من تهديدها؟.
اختار هذا الموضوع، لأنه رأى بأن الحرب، هي أكبر خطر يهدّد العالم الذي عليه مواجهتها، قبل أن تدمّره من العمق، بسبب التطوّر المرعبُ لأسلحتها.
اختار «فرويد» أيضاً، لأنه تلمّس في كتاباته إخلاصاً في السعي لتحقيق هدفه، وهو تحرير الإنسان الداخلي والخارجي من شرور الحرب، ومن عدوانيته وعنفه.
إنه ما جعل هذه الًمناظرة، من أعظم مناظرات النصف الأوّل من القرن العشرين، ولا سيما أنها جمعت بين اثنين من أعظم علمائه، في العلوم الطبيعية والإنسانية.
يبدأ «أينشتاين» بتقديم وجهة نظره، معتبراً بأن حلّ معضلة الحرب، يستدعي إنشاء هيئةٍ قضائية وتشريعية دولية، تتولّى تسوية النزاعات بين الدول التي عليها الالتزام، بالقرارات التي تصدرها الهيئة بعد الموافقة الدولية…
لكن، ولأنه انتبه إلى الثغرات الكامنة من وجهة نظره، انحاز إلى رأي «فرويد» القائل، بأن الحرب ترتكز على رغبة غريزية متجذّرة في نفوس البشر، وهي غريزة الكراهية والتدمير والعنف، الذي يمكن استثارته في أيّ لحظة، وخاصة أثناء الصراعات والاضطرابات.
إنها القناعة التي دفعت «أينشتاين» للسؤال: من أين تستمدّ دورة العنف المتجدّد مصدرها الأصلي، ليكون جواب «فرويد»: العدوانية هي هذا المصدر، وهي غريزة لا يمكن التخلص منها، أواقتلاعها من جذورها، لأنها ترتكز على استعداد غريزي ـ بدائي مستقل بذاته. لذا، كلّ ما يمكن فعله حيالها، محاولة تصريفها بعيداً عن الصراعات والحروب. ذلك أن الحروب تُعتبر إحدى السبلِ القويّة لهذه النوازع العدوانية القاتلة، التي تُعتبر بدورها، أخطرعائق يقف ضدّ تقدم الشعوب ورقيّها.
تنتهي المناظرة، وتفشل في إيجاد حلّ للحروب والنزاعات التي أهلكت البشرية، الأمرالذي يجعل هذين العالِمين يشعرا بالخيبة واللاجدوى، من محاولتهما التي كان هدفهما منها، خدمة السلام والإنسانية.
نعم، لقد شعر «أينشتاين» و «فرويد» بالخيبة التي لا يزال يشعر بها، كلّ من رأى الحروب تتفاقم، والأسلحة تتطوّر فتقتل وتدمّر أكثر وأكثر.. كلّ من رأى أيضاً، عجز منظمة العدل الدولية، ومجلس الأمن وغيرهما من المنظمات والهيئاتٍ التي تدعو للحفاظ على السلام والحقوق الإنسانية، إلا عن الانضمام إلى وجهة نظر «فرويد» التي تقول:
«الحروب لن تتوقف أبداً، وكلّ الحلول التي تمّ طرحها لإنهائها، أشبه بمطاحنٍ شديدة البطء، لن تبدأ بإنتاجِ الطحين، إلى أن يكون الناس قد ماتوا جوعاً».
