في عالم اليوم، حيث التنوع والاختلاف هما السمة الغالبة للمجتمع الإنساني، لا يزال موضوع كراهية الآخر يشكل أحد أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات، وهو يظهر فيها كالداء الذي ينخر في الجسد، ويبرز كإحدى الظواهر الخطيرة التي تهدد السلم الاجتماعي، وتؤدي إلى انتشار العنف. فالإنسان بطبعه يميل إلى التعصب لجماعته، والانحياز لنفسه، وإلى التمييز، والحكم المسبق على كل ما هو مختلف عنه، سواء أكان ذلك من الناحية العرقية، أو الدينية، أو الثقافية.
ويكمن الجذر الحقيقي لهذه المشكلة في الجهل، والخوف من المجهول، وأي رأي مخالف يبذر شيئاً من الشعور بالتهديد، وعدم الأمان، ويخلق تصوراتٍ نمطية مغلوطة عن صاحب الرأي. فالإنسان عندما لا يعرف الآخر لا يستطيع أن يفهم ثقافته، وعاداته، ويميل بالتالي إلى تصنيفه ضمن فئة “الغرباء” أو “المختلفين” ويعتبرهم تهديداً لأمنه، وقيمه. وهذا ما يؤدي بدوره إلى ظهور مشاعر الكراهية واللامبالاة تجاه أفرادٍ، أو جماعات، ومجتمعات.
لا شك أن انتشار هذه الظاهرة له عواقب وخيمة، فهي تزرع بذور الفرقة والانقسام، وتحول دون التواصل والتفاهم بين مختلف الأطراف، كما أنها تعزز الشعور بالعزلة، والاغتراب لدى الأفراد، والجماعات، مما ينعكس سلباً على مشاركتهم الفاعلة في بناء مجتمعاتهم.
وهنا يأتي دور الأفراد في الانفتاح الفكري والثقافي، والسعي نحو تفاهم متبادل مع هذا الآخر الذي وقع في دائرة الكراهية لسبب أو لآخر، ودون إدراك من أن التنوع والاختلاف هما سنة الله في خلقه، وأنهما يثرون حياتنا، ويضفيان عليها المزيد من الجمال، والإبداع.
وها قد ظهرت كراهية من نوع جديد بعد انتشار مواقع التواصل، ومنصاتها هي (كراهية الحرف) حيث التناقضات الحادة بين الأصوات المتصارعة التي ترفع أصداءها في فضاء الشبكات الافتراضية كجريمة يذهب ضحيتها الحوار والتفاهم. فعلى صفحات المواقع حيث المنابر المفتوحة أمام الجميع، وحيث أصبحت حرية التعبير أكثر أهمية، وأكثر عرضة للتهديد بآنٍ معاً، ينفلت الخطاب ويتحول إلى سيل من الاتهامات، وربما التهديدات، والتحقير. فالاختلاف في الرأي لم يعد مساحة للنقاش، والتبادل الحر للأفكار، بل أصبح ذريعة لتفجير مشاعر النفور من الآخر.
ففي عالم الافتراضي، يصبح كل حرف ينطلق من لوحة المفاتيح سهماً مسموماً موجهاً نحو الخصم، إذ لم تعد القراءة فرصة للتعمّق والتفكير، بل ربما غدت أداة للتشهير، والتشويه. وكأن الحقيقة أصبحت كنزاً مخفياً وراء صفحات الشبكات، ينبغي الدفاع عنه بكل الوسائل.
وفي كل مناسبة، ومناقشة، تشتعل الحرب اللفظية، ويحتدم الجدال، إلى أن تتحول المشاركة، والتعليق إلى ساحة لتصفية الحسابات، وتبادل الاتهامات. وما تلبث النقاشات أن تتحول إلى منصة للتعصب، والإقصاء، ينشر من خلالها المشاركون حقائقهم المزعومة متباهين بأفكارهم، فبدلاً من أن تكون الشبكات منبراً مريحاً للحوار الشفاف، وتواصل الصداقة والتفاهم، أصبحت ساحات للصراع، والاقتتال.
أمام هذا المشهد المضطرب نجد أنفسنا مدعوين إلى إعادة النظر في علاقتنا مع الحرف، والكلمة. فالحرف لم يعد مجرد وسيلة للتعبير بل أصبح سلاحاً مؤذياً في يد من لا يعرف قيمة الحوار، والاختلاف البنّاء.. وعلينا أن ندرك أن الفكر، والرأي لا ينتميان إلى فئة دون أخرى، وأن تنوع الأصوات هو ثراء لا يجب التضييق عليه. فالمجتمع السليم هو الذي يحتضن الاختلاف، ويستثمره في بناء الحضارة.
وفي زمن العولمة والتنوع، والتواصل بلا حدود حيث تتداخل الثقافات، وتتلاقى الحضارات، ليس هناك مكان للكراهية، والكلمة يمكن لها أن تصبح جسراً يصل بين الناس، والحرف وسيلة للتعبير والتفاعل الإنساني، والحوار المتزن أداة ثقافة، وحضارة.