عمار النعمة
ليس من السهل على الإنسان أن يكتب عن مسيرة حياة لشخصية أثبتت حضورها ونتاجها الإبداعي لسنوات طوال، فكيف إذا كانت تلك الشخصية هي حنا مينه صاحب التجربة الحياتية والإبداعية، والمُبحر في عالم الحكائية والسردية!.
حنا مينة الروائي الكبير الذي فارق الحياة بتاريخ 21 آب/ أغسطس 2018، هو أحد أبرز الأسماء العربية على الإطلاق في مجال الرواية والقصة، فقد تميزت رواياته بلغة سردية رائعة أدهشت الكثير من القراء والنقاد لما تحمله من مضامين واقعية وحقيقية وقد منحته خصوصية لاتشبه أحداً من زملائه الكتّاب.
حنا مينة الأيقونة السورية الذي ترك للخزانة العربية مجموعة من المؤلفات الإبداعية، الروائية والقصصية والمسرحية، والمقالات والدراسات، سجل منذ نعومة أظفاره معاناة شعبه وبؤس الفقراء، لكي تتحول هذه المعاناة وهذا البؤس فيما بعد إلى نسغ يغذي كيانه ويطلقه في عمل إبداعي لا مثيل له في غزارته وبساطته ورهافة حسه فهو الذي قال عن نفسه:«أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحي في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً، حين قمنا بزيارته أنا ومجموعة من الزملاء في منزله الكائن في مساكن برزة استقبلنا بكل حفاوة ورحابة صدر وابتسامة لطيفة تحمل معاني سنين مليئة بالجهد والكفاح والمعاناة، يبدأ بالحديث عن البحر الذي كتب عنه الكثير لينتقل إلى دمشق محبوبته والتي قال لي عنها: يجب أن نبادلها الحب بالحب فهي التي أعطتنا الكثير الكثير.
عاش حنا طفولته في إحدى قرى لواء الإسكندرون على الساحل السوري، وفي عام 1939 عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، كافح كثيراً في بداية حياته وعمل حلاقاً وحمالاً في ميناء اللاذقية، ثم كبحار على السفن والمراكب، اشتغل في مهن كثيرة أخرى منها مصلّح دراجات، ومربّي أطفال، إلى عامل في صيدلية إلى صحفي أحياناً، ثم إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، إلى روائي.
ولأنه كان عاشقاً للبحر يقول حنا مينة إن: «البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى أن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب»، مضيفاً في هذا الإطار نفسه: «في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب بأن أموت… تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟»، من يقرأ رواياته يدرك حجم مايحمله هذا الرجل من معاناة وخبرات حياتية تراكمت معه عبر السنين.
فمثلاً رواية (المصابيح الزرق) الرواية التي صوّرت حياة جماعة من الناس البسطاء أيام الحرب العالمية الثانية، ومن ورائها المجتمع في مدينة اللاذقية وسورية عموماً، وكيف أنه في فترة الحرب يتم طلاء المصابيح باللون الأزرق لتوحي بمنظر المنائر، ورواية (حكاية بحار) التي سردت حكاية (سعيد حزوم) ابن بحار مغامر هو (صالح حزوم)، والذي كان يمثل قمة الرجولة وحب المغامرة، ليس لدى سعيد فحسب بل لدى كل الذين خبروا البحر وعرفوا تحولاته، حيث تعرض الرواية محاولات (سعيد) ليكون صورة عن والده الذي اختفى في ظروف غامضة، ونشاهد في سير الأحداث التخبط والصراع الذي يواجهه البطل في سبيل أن يكون هو ذاته امتداداً لحياة وبطولات والده، كل هذه الروايات المعجونة بالحياة بكل ما تحملها من جمال وتعب وفقر ونضال وغربة جعلتنا نبحر مع هذا الروائي ونعيش معه أدق التفاصيل ليبقى محفوراً في وجداننا حتى اللحظة.
توفي الأديب والروائي السوري الكبير حنا مينه يوم 21 أغسطس عام 2018 عن عمر ناهز 94 عاماً بعد رحلة طويلة من المرض، وهو الذي أوصى أبناؤه بعدم نشر خبر وفاته ليرحل روائي البحر وأديب الفقراء في صمت على الرغم من الضجة الكبيرة التي أثارها في عالمه الأدبي، تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من الروايات والقصص والدراسات المهمة.
السابق