الثورة – ديب علي حسن:
ليس جديداً هذا التساؤل أبداً وما يدعي الفكر الغربي انه أنجزه في العلوم الاجتماعية والإنسانية سبقه إليه الكثير من المفكرين العرب، ولاسيما أولئك الذين عملوا في الاستشراف العرفاني.
ابن عربي يقول، بما معناه، كل ما لايؤنث لا يعول عليه.
وقبله كانت الروايات والأساطير والحكايا كلها تشير إلى دور المرأة في صناعة الحضارة والثقافة والإبداع بل إن الرجل كان ظلاً تابعاً لها.
اليوم نقف عند كتاب الهيمنة الذكورية وهو من تأليف – بيار بورديو
صدر عن المنظمة العربية الترجمة في بيروت .
في القراءات النقدية المهمة له يقدم د. عبد الهادي أعراب الكثير حول الكتاب المتميز
ويرى أن المؤلف يفتتح كتابه بسؤال إشكالي: كيف يمكن لنظام الكون باتجاهه الأحادي والممنوع وما يمثله من التزامات وعقوبات أن يكون محترماً رغم ذلك؟ ثم كيف تراه يتأبّد وهو النظام ذاته الذي يحمل من العنف والهيمنة وإهدار حق الغير ما يحمله؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وأخرى، انتهز بورديو فرصة ميدانية ثمينة لاختبار فرضياته النظرية، منطلقاً من “قبايل” الجزائر كنموذج للهيمنة الذكورية، ساعياً لتوضيح أنّ الاختلافات الجسدية /البيولوجية بين الذكور والإناث لا تشتغل إلا كتأكيد بل تبرير مبنيِن (بكسر الياء) للاختلاف الطبيعي بين النوعين، بعدها يأتي دور الآليات التاريخية لتؤبد بنيات التقسيم الجنسي الذي رسّخه النظام المجتمعي.
وباستدماج الرجل والمرأة للبنيات الثقافية الذكورية في شكل ترسيمات لاواعية من الإدراك والتقييم تزداد صعوبة التفكير في صنف هذه الهيمنة ما لم تتم الموضعة العلمية لذات الموضعة العلمية نفسها أي استكشاف مقولات الذهن وأشكال التصنيف اللامرئية والتي بها يتم بناء العالم.
لهذا ولاعتبارات عديدة منها غنى المعلومات والبيانات وكثافة الأفكار وعمق التحليل الذي يميز هذا المؤلف، اخترنا لورقتنا ألا تكون مجرد تلخيص له، وإنّما قراءة لأفكاره وطروحاته، من خلال مداخل كبرى نعتبرها مفاتيح أساسية للفهم، وهي: مدخل المقاربة بالسلطة ومدخل التاريخ ومدخل الاثنولوجيا، ومدخل التحليل الاقتصادي للسلع / الخيرات الرمزية، والمدخل النتيجة إعادة الإنتاج. لكن كيف يمكن أن نقوم بقراءة لمؤلف هو في الأصل قراءة للهيمنة الذكورية؟
لا شك أننا سنكون أمام قراءة- ممكنة من بين أخرى عديدة بالتأكيد- لقراءة نجدها خاصة وجريئة وصادمة، إلى الحد الذي اتهم صاحبها بكونه ليس عالم اجتماع وإنما هو منظّر فقط للهيمنة.
إنّ هذه الوشاية نعتبرها شهادة على قدرة الرجل الدقيقة على فحص الهيمنة وتشريح أشكالها الأكثر احتجاباً واختفاء، بعدما طوّع قبلاً أدواته المنهجية المتنوّعة، وشحذ مفاهيمه الخاصة لكشف هيمنة المدرسة والنظام التعليمي وأماط اللثام عن براءة اللغة والنظام المجتمعي، فاضحاً تورط هيئات عديدة في إنتاج وإعادة الهيمنة التي تمثل الذكورية، هاهنا إحدى صورها.
ولئن كان الإيضاح عبر الفضح ينتمي حصراً إلى حقل السوسيولوجيا – كما يؤكد بورديو – فهل تراه وفّق في فضح طرق اشتغال الهيمنة الذكورية وكشف منطقها الداخلي؟
– مدخل المقاربة بالسلطة
اتجه بورديو إلى تفكيك الهيمنة والخضوع كجدل يقوم بين قطبي المعادلة: الرجال والنساء، وذلك في سياق ما يسميه بـ “العنف الرمزي” كمفهوم بلوره في دراسات سابقة.
والحال أنّه ليس مجرد مفهوم بل نظرية قائمة تتضمن قطيعة تامّة مع التصور الشائع الذي ينطلق من أنّ العنف الرمزي أخفّ من العنف المادي، مادام “الرمزي” يحمل تعارضاً اصطلاحياً مع الواقع المادي أو العيني.
كما أنّ الانجرار وراء هذا الفهم الاختزالي ينسينا واقع نساء عديدات يتعرضن لكلّ أصناف العنف والاستغلال،
قد يكون عنفاً ناعماً لامحسوساً، مادام غير مرئي ولا ينتبه له حتى من قبل ضحاياه
لكنه في كلّ الأحوال قائم وواقع، ترسخه الثقافة بتحويله إلى ترسيمات لا واعية، يمتد عملها إلى تقسيم الأشياء والأشكال، محمّلة بعلاقات الهيمنة والاستغلال، مفردة للمذكر ما لا تفرده للمؤنث؛ من هنا يجد فيها هذا العنف كلّ الشروط الكافية والضرورية لاستدامته وعليه فـ “أساس العنف الرمزي لا يكمن في الضمائر المخدوعة التي يكفي تنويرها، بل في استعدادات معيرة على بنى الهيمنة”
ثم إنه لا يتحقق إلا من خلال “فعل معرفة وجهل عملي يمارس من جانب الوعي والإرادة، ويمنح “سلطته المنومة” إلى كلّ تمظهراته وإيعازاته وإيحاءاته وإغراءاته وتهديداته ومآخذه وأوامر دعوته إلى الانضباط”
إنّ القوة الرمزية تمارس على الأجساد بشكل مباشر، دون أن تكون بالإكراه الجسدي السافر، لأنّ لها مفعول السحر الذي يستطيع أن يتغلغل فينفذ إلى أعماق الجسد. إنّه عمل تحويلي يزداد قوة بقدر ما يمارس بأسلوب لامرئي.
إنّها قوة متحجبة ومتقنعة، وما يجعلها كذلك هو تواطؤ البنيات الثقافية ممثلة في التصورات والقيم إضافة إلى الجهل، كما تعززها هيئات قائمة كوسائل الإعلام والمعرفة والاتصال.
