الملحق الثقافي-أمين الساطي:
مذهولاً من منظر تساقط واجهات الأبنية، وأنا أشاهدها على شاشة التلفزيون، نتيجة للهزة الأرضية التي حدثت مساء اليوم في بيروت، اعترتني الهواجس من كلمات المذيع، وهو يشير إلى خارطة أمامه، موضحاً وقوع لبنان وسورية على خط زلزالي نشيط، يبدأ من جبال طوروس في تركيا، ماراً بسهل البقاع حتى غور الأردن، منتهياً بالبحر الأحمر، لقد تكررت الهزات الأرضية خلال الأيام الماضية بشكل غير معقول، ما جعلني أتوجس من أن هناك زلزالاً مدمراً قادماً في الأيام القليلة القادمة. خطر لي أن الطبيعة قد ضاقت ذرعاً بجشع الإنسان الذي لا ينتهي، ولم تعد قادرة على التغاضي عن نهب ثرواتها بهذه الوحشية. قادتني أفكاري إلى الزلزال المدمر الذي ضرب بيروت قبل سبعمئة سنة. إذ تراجع البحر وقتها إلى الوراء لمسافة كيلو متر، ثم ارتد من جديد بشكل موجة عالية، غمرت المدينة كلها، فأغرقتها وهدمت أبنيتها، ولم ينجُ من هذا الزلزال إلا السكان الموجودون في الهضاب العالية المحيطة ببيروت. في ساعات الصباح الأولى، ضربت بيروت من جديد هزة أرضية، أقوى بكثير من الهزة التي حدثت في ليلة البارحة، شاهدت الثريا الموجودة في غرفة الجلوس وهي تتأرجح من الشمال إلى اليمين، هرعت إلى التلفزيون، فسمعت المذيع يعلن للمشاهدين بأن هزة أرضية بلغت شدتها ست درجات على مقياس ريختر قد ضربت بيروت، وأخذ يتفلسف ويعطي النصائح التي يجب اتباعها فوراً للسلامة، فأدركت أن الأمور أصبحت أخطر بكثير مما يحاول أن يتشدق به هذا المذيع. اقتنعت بأن الحل الوحيد أمامي، أن أبدأ في توضيب حقيبتي الصغيرة، وأنطلق بها فوراً إلى قريتي شحيم، الواقعة في أعالي تلال الشوف على ارتفاع ثمانمئة متر عن سطح البحر، التي تبعد عن بيروت حوالي خمسين كيلومتراً، ما يجعلني في أمان من غدر الزلزال. تسابقت الأفكار إلى رأسي، وتذكرت بنت خالتي سلمى، التي كانت حبي الأول، وتصورت اللحظات التي كنت أسرقها من الزمن برفقتها بعيداً عن عيون سكان قريتنا، وما زلت أشعر حتى الآن بطعم قبلتها الأولى التي تغلغلت إلى أعماق وجداني، لقد تجرأت على التفكير بها من جديد، بعد أن سمعت الشائعات بأنها غير سعيدة بزواجها، وأنها على أبواب الطلاق من زوجها تاجر المفروشات الثري، وجدت نفسي عاجزاً عن مقاومة رغبتي في الاتصال بسلمى على جوالي، لأطمئن عليها، وأقترح عليها مرافقتي في رحلتي إلى شحيم، إنني ما زلت أحبها على الرغم من أنانيتها، التي دفعتها لتفضيل تاجر غني عليَّ، لكني دائماً على استعداد، لأن أجد لها الأعذار لتبرير جميع تصرفاتها. رفعت هاتفي الجوال واتصلت بسلمى، رغم معرفتي، بأنها تعيش مع زوجها بمنزلهما في شارع الرملة البيضاء، إنها المخلوقة الوحيدة التي يهمني نجاتها في بيروت، فأجابتني بأنها وحدها بالبيت، ولا تستطيع أن تتركه، لأن الناس في هذه الفوضى سوف تقتحم المنازل وتنهبها، وأغلقت الخط. بعد ذلك سمعت صوتاً مخيفاً استمر لبضع ثوان وأحسست بالبناء يهتز، وتصورت بأن السقف سينهار على رأسي، فشعرت بالذعر الحقيقي لأول مرة في حياتي، استلمت الدرج هابطاً بسرعة من دون تفكير، كانت الشوارع تغصّ بالناس الذين تركوا بيوتهم لحظة شعورهم بهزة الزلزال، وهم يهرعون تحت تأثير هذه الصدمة إلى الأماكن المفتوحة، الطرقات مشحونة بالناس وبالصياح والغبار الناتج عن تساقط واجهات المباني. أخذت طريقي متجهاً إلى الأوتوستراد للوصول إلى قريتي، وبعد أن مشيت حوالي نصف ساعة، سمعت رنين جوالي، كانت سلمى على الخط وصوتها المبحوح يرتعد من الخوف، طلبت مني أن أحضر إلى منزلها لأخذها معي إلى قريتنا، أعطتني كلماتها شعوراً بقدرتي على قهر جميع هذه الظروف الصعبة، انبعث الأمل في نفسي، لأغير مسار حياتي وأبدأ من جديد. استدرت وعدت راجعاً باتجاه منزل سلمى، أهرول مسرعاً بين الكتل البشرية والسيارات المزدحمة التي تسد الطرقات، بعد أكثر من ساعة وصلت إلى بيتها لأجدها واقفة بمفردها أمام البناء تحمل حقيبة صغيرة وترتدي بنطال جينز أزرق وبلوزة صوفية بيضاء خفيفة، أظهرت الحروف المطبوعة عليها اسم ماركتها المشهورة، إنها حتى في هذه الظروف، لا تستطيع التخلي عن عادتها في المحافظة على أناقتها وجمالها، ستبقى دائماً كما أتذكرها مزيجاً من السحر والجمال والغموض.
الناس تمشي في الشوارع متراصة كالقطيع، وكأنها لا تصدق ما يجري حولها، إن وجود حقيبة يدها الفاخرة قد تتسبب في مقتلنا من أجل اختطافها، طلبت منها أن تتخلص من الحقيبة، فتوقفنا في إحدى الزوايا، وأخرجت منها رزمة سميكة من أوراق المئة دولار، وقسمتها إلى رزمتين وضعت الأولى في جيب بنطالها وأعطتني الثانية، عرفت بأنها ما برحت تكن لي المودة القديمة، فوضعت يدي مطوقاً خصرها بشدة، لأشعرها بالأمان، وسط هذه الحشود الكثيفة، حيث يضغط الجسد على الجسد، توقف عقلي عن التفكير، حتى إني لم أعد أشعر برغبة جنسية نحوها وهي بين يدي، تنسيك غريزة القطيع ذاتك، وتعطيك شعوراً زائفاً بأنك في أمان ما دمت تتحرك مع هذه الكتلة البشرية. وصلنا طريق الجديدة، وما كدنا نقترب من الجسر الموجود على أوتوستراد المتن، حتى ضرب بيروت زلزال قوي من جديد، فتدفق الناس تقودهم غريزة القطيع وتراصوا وأخذوا يركضون مذعورين، بدأت جوانب الجسر بالتساقط على الحشود، حاولت أن أتمسك بسلمى لأبقيها بجانبي، لكن الضغط الناتج عن تدافع الأشخاص جرفها بعيدة عني، ولم يعد باستطاعتي أن أضيق المسافة بيننا لاستردادها، وشاهدتها وهي تنجرف مع تيار الناس إلى تحت الجسر. بعد دقائق فوجئت بمنظر كتلة ضخمة من البيتون تهوي على الأرض لقد انهار جزء الجسر القريب منا، حيث كانت سلمى هناك تحته في تلك اللحظة، شاهدت الكارثة فأصابتني الهيستيريا، حاولت جاهداً أن أتجه إلى مكان سلمى، إلا أن الجمهور بدأ يركض في الاتجاه المعاكس، ودفعني التيار الذي لا يقاوم عشرات الأمتار عن مكان انهيار الجسر، التفت بصعوبة ونظرت إلى موقع الجسر، ملقياً نظرة الوداع الأخيرة، قبل أن أختفي بين الجموع البشرية التي ظلت تتدافع بجنون مبتعدة عن موقع الجسر.
العدد 1204 –10 -9 -2024