الثورة – بتول أحمد:
يُعدّ التأريخ الشفهيّ مكمّلاً للتاريخ المكتوب بما يحمله من تصحيحات مباشرة لأحداث تحتاج إلى مصداقيّة في روايتها، وبما يفسح من مجال لاستكمال الرؤية المعرفية التاريخيّة من خلال ما يضيفه من شهادات مهمَّشة أو منسيّة، وعبر توسيعه لحقول البحث التاريخيّ، ليشمل طبقات اجتماعيّة مختلفة ومواضيع كانت تطرح فقط في أطر العلوم الأخرى.
تعريفه وأهميته
ويُعرّف التأریخ الشفوي بأنه منهجیة بحث تاریخیة تعتمد على جمع وتوثیق الأحداث والقصص والتجارب من خلال الروایات الشفویة للأفراد الذین شهدوا أو شاركوا في تلك الأحداث، بدلاً من الاعتماد فقط على الوثائق المكتوبة أو المراجع الرسمیة، ویتم تسجیل شهادات الأشخاص بشكل مباشر، مما یتیح فرصة لفهم التاریخ من وجهة نظر الأفراد العادیین والمجتمعات التي قد لا تظهر أصواتها في المصادر التقلیدیة.
وهنا يطرح مفهوم التأريخ الشفوي أسئلة معرفية واسعة داخل حقل البحث التاريخي اليوم في العالم العربي، ويكتسب أهمية راهنة خاصة بعد الأحداث والحروب التي عاشتها المجتمعات العربية مؤخراً.
فتتدافع الأحداث وتواليها بشكل سريع نتج عنه تغير في عملية التحقيب التاريخي، وتحول في إدراك الأحداث الزمنية، حيث ساهمت القنوات الفضائية، ووسائل الإعلام، وتكنولوجيا الاتصالات، وشبكات التواصل الاجتماعية في إلغاء المسافة الفاصلة بين الماضي والحاضر الذي أصبح يتحول إلى تاريخ راهن أمام الإنسان العربي.
هذه التحولات، أصبحت تطرح على المؤرخين العرب إشكالية تاريخية: كيف يمكن مقاربة ما عرفه العالم العربي من حراك سياسي واجتماعي مقاربة تاريخية هادئة بعيدة عن الأحكام المسبقة والخلفيات الإيديولوجية، والقراءة السطحية لواقع المجتمعات العربية؟، وما هي التحديات والرهانات المنهجية اللازمة لفهم ما مرت به الدول من ازمات وحروب.
من هنا تكمن أهمية معالجة موضوع التأريخ الشفهي، باعتباره حقلاً تاريخياً يتيح للمؤرخ توسيع مجال البحث والدراسة، من خلال الاستماع إلى شهادات وروايات صانعي الأحداث والفاعلين فيها، والذين لم يظهر صوتهم في زمن سيطرة الإعلام والصورة، ويفتح الباب أيضاً للتفكير في إعادة الاعتبار للفرد بصفته فاعلاً تاريخيا.
ظهوره وتطوره
ظهر التأریخ الشفوي كمجال منهجي متمیز في منتصف القرن العشرین، وعلى الرغم من أن استخدام الروایات الشفویة في توثیق الأحداث، فهو یعود إلى العصور القدیمة.
وتطور التأریخ الشفوي بشكل ملحوظ في خمسینیات القرن العشرین ، حیث ظهرت كلمة تاريخ شفوي لاول مرة في مقال للأمريكي جوي غولد(joe Gould),كما أنُشئ أول برنامج رسمي للتأریخ الشفوي في عام 1948 في جامعة كولومبیا بالولایات المتحدةالأمریكیة. یُعتبر المؤرخ الأمریكي (ألن نیفینز) أحد رواد ھذا المجال، إذأسس برنامجًا لجمع الشهادات الشخصیة وتوثیق التجارب الحیاتیة من أجل سد الثغرات في السجلات المكتوبة.
انتشاره واستخداماته
مع ظهور تقنیات التسجیل الصوتي آنذاك، أصبح من الممكن توثیق الشهادات الشفویة بشكل دقیق، مما ساعد في تعزیز ھذا المنهج التاریخي وتوسیع نطاق استخدامه.
منذ ذلك الوقت، انتشر التأریخ الشفوي في جمیع أنحاء العالم واستخدم في توثیق تجارب الحروب، الثورات،الهجرة، والتراث الثقافي في العدید من المجتمعات.
استخدامه عربيا
وكان أيضاً للوطن العربي والإسلامي دوراً في التأريخ الشفوي،فقد اعتمد المؤرخون العرب والمسلمون بشكل واسع على المادة الشفوية، بل إن جزءا من التراث العربي المدون في ميادين علمية عديدة، كان تراثا شفويا قوامه التداول والرواية الشفوية، وهناك إجماع على أن جل المحدثين والمؤرخين والإخباريين والأدباء والشعراء الأوائل كانوا قد استفادوا من المصادر الشفوية. فالبلاذري والطبري والمسعودي وابن خلدون مثلا يأتون على رأس المؤرخين المسلمين الأوائل الذين اعتمدوا بشكل كبير على الروايات الشفوية عند تأليف كتبهم.
كما يرجع الفضل أيضا إلى العلماء المسلمين الذين قننوا قواعد علمية للاستفادة من الروايات الشفوية. حتى أصبحت تلك القواعد فيما بعد علوما مستقلة مثل علم الإسناد، وعلم الرجال، وعلم الجرح والتعديل، ومصطلح الحديث، زيادة على علم التاريخ الذي مثل مرحلة جديدة وحاسمة في كتابة التاريخ؛ إذ لم يعد التاريخ يقتصر على الخبر وحده، وإنما أصبح يفحص الخبر في حد ذاته، ويمثل هذه الاتجاه ابن خلدون الذي كان أول من دعا إلى ضرورة نقد الروايات والأخبار فاعتماد المؤرخ على مجرد النقل أي أخذ الرواية كما هي دون تثبت أو فحص من شأنه أن يؤدي إلى الوقوع في المغالط والزلات وبالتالي تحريف حقائق التاريخ.
تشكيل الرواية الشفوية
تشكلت الرواية الشفوية إحدى أهم الوسائل الأساسية لتواصل عناصر موروثنا الحضاري بجوانبه الاعتقادية والثقافية والتقنية، فالقرآن والحديث كما هو معلوم لم يدونا كتابيا إلا بعد وفاة الرسول محمد (ص)، كما أن أغلب العادات والتقاليد ومناقب الأولياء والكثير من القصص والروايات والأساطير المحلية تناقلتها الأجيال عبر العصور عن طريق التواتر الشفوي، ولم يتم تسجيلها كتابة إلا في وقت متأخر.