الثورة – رفاه الدروبي:
يصاب المبدع عادة بالإرباك المركَّب والفني تجاه الأحداث الكبرى والهزات العنيفة، وخاصة تجاه “طوفان الأقصى”..
بكلماته القليلة استهل الدكتور ثائر عودة محاضرة عنوانها “الكتابة في زمن طوفان الأقصى”
في ثقافي الميدان، كونها جعلت الأطفال رجالاً في أول لقاء مع العدو، فليس الزمن في غزة بحالة استرخاء، بل إنَّه اقتحام للظهيرة المشتعلة، وأدمنت القيمة النبيلة القاسية، وأعلنت أنَّها لا تحبُّ كتابةٍ جفت على الشفاه ومررت نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في آن.
الدكتور عودة تابع محاضرته أنَّ المبدع الجديد في غزة وطوفانها، هكذا يرى ويسخر قلمه من أجل الاشتباك مع جوعها وعطشها، وحالة الحصار فيها، ورفضها للاستسلام وإصرارها على كنس المحتل حتى لو اقتحم أزقتها وزرع الدبابات في أحشائها، فكان المخيم المركز لا الهامش، مثلما فعل يوماً الشهيد غسان كنفاني في “ورقاته الغزاوية” عندما كان معين بسبسو يعتبر غزة ملكية حصرية شخصية له، ونظم الشاعر نزار قباني:
الفدائي وحده يكتب الشعر
وكلُّ الذي كتبناه هراء
تبدأ البنادق بالعزف
تموت القصائد البلهاء.
إنَّ الأدب المقاوم في زمن “طوفان الأقصى” استطاع أن يستحوذ على أولويات الثقافة واهتماماتها، وأخّرت الموضوعات الأخرى كثيراً إلى الوراء، وكان مواكباً للملحمة، وحملها وتعدى مرحله الومضة باعتبارها تختفي بعد برودة الحدث بسبب طول المعركة وكثرة أحداثها وتنوع تداعياتها، وضخامة تفاصيلها، لأنَّها تحتوي كلَّ تفصيل منها على حدث كبير بحدِّ ذاته وفي طريقتها إلى التحول صوب تشكيل ظاهرة أدبية عميقة في التراث الأدبي والثقافي المعاصر.
وانتقل الدكتور ثائر إلى أسباب تشكيل الظاهرة الأدبية فأوضح بأنَّها تعود إلى توفر الصورة الإعلانية وكثافتها وموضوع غزة على وسائل الإعلام، وفداحة الأسباب جعلت الأدب يتأثر بشدة ويندمج ويلتصق في الحالة ما دفع الكتَّاب لتسجيل حضورهم في الميدان الفني والثقافة والأدب.
كما لفت إلى الخصائص العامة للظاهرة فكانت أولها الوحدة الموضوعية والحالة الملحمية فقد ركَّزت على الصورة الغزيرة لأحداث تغذَّي منابع الإبداع فلم تعد المنشورات القصيرة سائدة وعادت ظاهرة المطولات الدرامية المنشورات الأدبية الموثقة للحدث شعورياً وأسلوبياً بنفس سردي، ونطاق حكائي مع إعلاء شأن العاطفة، ورغبة في تدوين الحكاية التاريخية للمحطة الفاصلة في التاريخ، واستئناف الملحمة في الأدب ظاهرة مهمة تستحق التثبيت والتوثيق ودعمها بالعاطفة الجياشة الممتزجة بالغنائية الفردية وبالجماعية الملحمية في تناغم وائتلاف بل تلبست حالة الأديب حالة غزة، وعاشت معه تفاصيلها فصار ناطقاً باسمها محتراً بحرارتها، متفاعلاً مع غليانها، تتولد منها حالة احتجاج حادة مع شحنات غاضبة ثورية، كما كانت بمحاور في بعض أمثلتها حدود النقد.
كما بيَّن عودة أنَّ الواقعية الوصفية وليدة الصورة البصرية الكثيفة والمتابعة اللحظية بتطوراته واعتداءاته أعادت أحداث الطوفان لرسم تحالفات الفن والأدب والثقافة والقيم العاطفية والانفعالية إلى الصدارة وأشعلت شرارة الأدب لدى المخضرمين والمبتدئين واستطاعت أن تكون رحماً يتخلق فيه الأدب من جديد.
خاتماً محاضرته أنَّ ما يحدث في غزة ليس جديداً على شعب قاوم الاحتلال منذ أن كان الاستيطان مجرد فكرة، وما يحدث الآن مرت مجرياته في فلسطين كلٌّها قبل نكبه عام 1948، وما تلاها بلا أي تغيير أو تهاون، كلُّ الروايات، والقصائد والقصص المكتوبة وستكتب، ستحرم العدو من ممارسة ومحو الذاكرة الفلسطينية وأصبح المبدع مؤرخاً لامعاً.
