تشرين التحريرية.. الحدث الفارق ونقطة انطلاق في تاريخ العرب ومستقبلهم
رسمت انتصارات حرب 6 تشرين الأول التحريرية عام 1973، والتي قادها الرئيس الراحل والقائد المؤسس حافظ الأسد حدثاً استثنائياً.
الثورة – دمشق – رولا عيسى:
تعود ذكرى حرب تشرين التحريريّة هذا العام، والتي قادها الرئيس والقائد المؤسس حافظ الأسد، في ظروف مشابهة لاندلاع الحرب مع العدو الإسرائيلي في عام 1973، مع اختلاف في ما وصل إليه الواقع العربي من توحيد للصف في مواجهة الاحتلال الصهيوني وبطشه وتدميره وجرائمه الرعناء.
انتصارات تشرين رسمت مستقبلاً مختلفاً، بعد أن كانت أولى نتائجها تحرير مدينة القنيطرة من الاحتلال الإسرائيلي بعد اشتباكات وحرب وصفت بالاستثنائية، كما أن حرب تشرين وبفضل قائدها الاستثنائي الرئيس المؤسس حافظ الأسد استطاعت توحيد الصف العربي.. واعتبرت نقطة انطلاقٍ في تاريخ العرب ومستقبلهم، نقطة اتكاء للإرادة العربيّة التي تستطيع، متى شاءت، أنْ تستند إلى حقيقة قدرتها على الفعل والإنجاز وتغيير التاريخ وحجز المكان الأكثر احتراماً تحت الشمس.
نقطة انطلاقٍ في تاريخ العرب ومستقبلهم، نقطة اتكاء للإرادة العربيّة التي تستطيع أنْ تستند إلى حقيقة قدرتها على الفعل والإنجاز وتغيير التاريخ
ما لم يصدقه العدو
وفي تلك اللحظة المهمة في السادس من تشرين الأول، عام 1973، حدث ما لم يصدقه العدو للوهلة الأولى، وما لم يتوقعه في أي حال من الأحوال، وفقاً لما كان لديه من فائض قوةٍ وغطرسة ودعم عالميّ، على الرغم من كل التحذيرات والمعلومات التي جهد بعض الجواسيس العرب في إيصالها وتأكيدها، من هنا تحديداً، تبدأ أولى علامات الخصوصية التاريخية المهمة جدّاً لهذا الحدث الفارق.
فبعد النكبة في حزيران من عام 1967، والتي تحوّلت إلى نكبةٍ جديدةٍ حفرت عميقاً في نفوس العرب من المحيط إلى الخليج، وشكلت هزيمة نفسية خطيرة لعشرات الملايين منهم، لا تقلّ خطورتها أبداً عن هزيمة الميدان، وتركت جرحاً ظن الجميع، ما عدا قلة قليلة، أنّه سيحتاج إلى عشرات الأعوام كي يندمل، ودفعت عدداً من رموز “النخبة” العربية حينذاك إلى اعتماد تلك الهزيمة مرثية أزلية لأمة العرب.
كتابة المستقبل بخط مغاير
وزادت، من جهة أخرى، في ثقة العدو بنهائيةِ تفوقه بفارقٍ شاسع عن ضحاياه الذين لن تقوم لهم قائمة بعد ذاك اليوم، بعد كلّ ذلك، لم يتوقّع أحد أنّ هناك بين العرب من عمل ليل نهار على استدراك التاريخ وإعادة تصويبه وكتابة المستقبل بخط مغاير تماماً، وفي أسرع وقتٍ ممكن.
في وقتها أدرك الرئيس والقائد المؤسس حافظ الأسد، أنّ لا شرعية لأيّ حاكمٍ أو مسؤول عربيّ ما دامت مفاعيل الهزيمة قائمة، من هنا، بدأ التخطيط والتنسيق العمليّان بين الجانبين العربيّين، وبدأت حرب الاستنزاف التي سطّر فيها الضباط والجنود في الجيشين السوريّ والمصريّ، ملاحم بطولية عظيمة.
وفي مصر لم تُغيّر وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في الأمر شيئاً، والذي وصل الليل بالنهار من أجل هدف التحرير واستعادة الكرامة العربية حتى لحظة رحيله، فالضغط الشعبي كان أكبر وأقوى من أنْ يتجاوزه الرئيس الخلَف، محمد أنور السادات، أو يدير ظهره له، ليصبح بلوغ حدث الساعة الـ2 و10 دقائق من بعد ظهر السبت من عام 1973، قدَراً عربيّاً لا يمكن أن نحيد عنه، لأن خلاف ذلك سيعني تكريس “عصر إسرائيل” حتى وقت طويل، وهذا لا يكون إلا على حساب أرض العرب وكرامتهم، وبوجودهم واستمراريتهم كأمّة.
تحول فاصل في التاريخ
إنّ قرار المبادرة في دمشق والقاهرة إلى الهجوم العسكريّ هو في حدّ ذاته، تحوّل فاصل في التاريخ العربيّ المعاصر، فكان الزمن زمن السطوة الإسرائيلية، زمن “الجيش الذي لا يُقهر”، زمنَ “نستطيع احتلال بلدانكم بفِرَق موسيقية”، زمن التعميم والتكريس لنظرية أن العرب عاجزون، وأنّ حزيران هو بوصلة العصر، وهو الدليل الدامغ الذي يوضح شكل مستقبل العرب والمنطقة، وبالتالي أيضاً وحتماً، زمن فرض القوة الأميركية الاستعمارية في المنطقة العربية، من خلال تحويل قاعدتها العسكرية الإجراميّة المتقدمة في فلسطين، إلى مركز القرار والهيمنة في المنطقة.
لذلك، كانت المبادرة إلى الهجوم على الجبهتين السورية والمصرية بمثابة إعلان حرب على القوة الاستعمارية الرئيسة وعلى كلّ أعوانها وحلفائها في العالم، ولم تكن هجوماً على الجيش الصهيونيّ الذي جرى تجميعه من جهات الأرض الأربع، ليفرض ذلك الواقع، فحسب.
التحول التاريخيّ الثاني، والذي لم يشهد العرب مثله منذ مئات الأعوام، كان تقاطر الكتائب العسكرية القتالية من كلّ البلدان العربية، وذلك ما يجب التركيز عليه وعدم إغفاله.
من المحيط إلى الخليج
وارتفع الصوت والمشاركة العربية في الحرب التحريرية التي قادها الرئيس الراحل المؤسس حافظ الأسد التي تعني كل إنسان عربيّ من المحيط إلى الخليج، ذلك لأنّ الفلاح المغربي في أقاصيّ الريف، كما العامل في أصغر معمل في حلب، والصياد العربي عند شواطئ عدن، كلّهم كانوا يشعرون أنّ نكبة حزيران هزمته بشكل شخصي، وأنّ ضياع الأرض العربية في فلسطين وسورية ومصر ولبنان والأردن يعني ضياع الأرض التي يقف عليها في مستقبل الأيام، وأنّه، كابن أمّة كريمة، تعرض لامتهان كرامته وامتحان وجوده.
المبادرة إلى الهجوم على الجبهتين السورية والمصرية بمثابة إعلان حرب على القوة الاستعمارية الرئيسة وعلى كلّ أعوانها وحلفائها في العالم
لذلك، تستذكر سورية بسالة ضباط “التجريدة المغربية” وجنودها في الجولان، ويتحدثون بفخر كبيرٍ عن شجاعة الجزائريين والتونسيين والعراقيين، الذين قَدِموا من كلّ ناحية من الأرض العربية، من أجل فرض وجودهم الكريم على هذه الأرض، ولم يبخلوا بأرواحهم ودمائهم من أجل ذلك.
صدمة للقوى الاستعمارية
تلك المسألة تحديداً شكلت صدمة كبيرة للقوى الاستعمارية التي تقف خلف كيان الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، فاجتماع العرب معاً في جبهات القتال ضد الغزاة يعني نصراً مؤكداً لهؤلاء أولاً، ويعني أيضاً عودة للروح التي قاتلت في “ذي قار” و”القادسية” و”اليرموك” و”مرج دابق” و”بواتييه”.. وفي ذلك خطر كبير على أي قوة استعمارية قائمة، فتلك الروح ذاتها، أنهت بالفعل إمبراطوريات وقوى هائلة كانت تزرع الرعب في جنبات الكوكب، هكذا يقول التاريخ الذي يعرفه الغرب جيداً.
الانتصار بما توافر من عتاد وسلاح، على السلاح الأميركيّ والغربي الأحدث والأمضى في ذلك الوقت، والذي كان الغرب أغرق به الكتائب الصهيونية على مدى أكثر من 25 عاماً
التحوّل الثالث والمهمّ جدّاً في ذلك الانتصار الفاصل على الصعيد العربي والعالمي، هو الانتصار بما توافر من عتاد وسلاح، على السلاح الأميركيّ والغربي الأحدث والأمضى في ذلك الوقت، والذي كان الغرب أغرق به الكتائب الصهيونية على مدى أكثر من 25 عاماً، وتلك مصيبة كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية والقوى الغربية الاستعمارية الحليفة، والتي كانت تواجه الاتحاد السوفييتي وحركات التحرر والدول النامية في العالم بكل ما أوتيت من قدراتٍ وقوة.
تحطيم أسطورة التفوق
تحطيم أسطورة تفوّق السلاح الغربيّ على أيدي العرب يعني هزيمة قاسية للغرب في ذلك الصراع العالميّ المرير، أمّا الانتصار على القاعدة الاستعمارية، “إسرائيل”، فيعني دحر الغرب وهزيمة إرادته المهيمنة على هذه المنطقة حتى وقت طويل جدّاً، وسقوط كل مشاريعه التوسعية والناهبة، والتي أقيمت من أجلها قاعدة الإجرام تلك.
لذلك كلّه، فعلت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وعدد من الدول التي تدور في هذا الفلك، كل ما يمكن فعله لمنع السوريين والمصريين، والعرب عموماً، من تحقيق نصرٍ حاسم ونهائيّ في تلك الحرب المجيدة.
ولم تكتف تلك القوى بإنشاء جسور جويّة متواصلة ودائمة لمدّ الصهاينة بأحدث وأمضى أنواع السلاح والعتاد وبالرجال والمقاتلين أيضاً، بل فعّل كل هؤلاء قدراتهم السياسية لاختراق قرار الحرب والتحرير لدى القيادات العربية.
الأهمية التاريخية
ويستذكر المقاومون والأحرار في العالم حرب تشرين التحريرية ومعانيها في كلّ مناسبة، ويشرحون للأجيال الحالية قيمة ذلك الحدث وأهميته في تاريخ الأمة ومستقبلها.
ولعلّ ما واجهته وتواجهه سورية من عدوانٍ إرهابي وحصار اقتصادي وعقوبات، على مدى أكثر من عشرة أعوام، هو ردّ على ذاك النصر وتلك الإرادة أولاً، ثم محاولةٌ مستميتة لإفشال كل الجهد والعمل لاستكمال ذلك الطريق حتى نهايته الناصعة، والذي وصلنا فيه إلى أنْ نصبح أقرب ما نكون طوال تاريخنا الحديث، إلى النصر وتحرير الأرض وفرض الوجود بقوة الإرادة والكرامة.
أكبر معارك الدبابات
لقد شهدت حرب تشرين ولاسيما في الجولان السوري المحتل أكبر معارك الدبابات في العالم، ولم يحدث في التاريخ أن هوجم الدفاع المعادي بـ 770 دبابة، تزج في آن واحد ومن طرف واحد، وأن يقابل هذا الحشد من الدبابات عدداً مساوياً له أو أقل بقليل من الدبابات، وأن تستمر تغذية المعركة بالدبابات، حتى بلغ عدد مازجّه الطرفان منها أكثر من ألفي دبابة.
الإنسان هو العامل الحاسم
كادت الحرب العالمية الثانية والحروب التي تلتها أن تضع نهاية حزينة لسلاح المشاة، حتى أن الكثيرين من الكتاب العسكريين باتوا يتندرون بهذا السلاح الذي أصبح في نظرهم أثراً من تراث الماضي، لكن حرب تشرين التحريرية أعطت جندي المشاة دوره الفعال في المعركة الهجومية والدفاعية، وهذا دليل آخر على أن الإنسان هو العامل الحاسم في المعركة.
ما قيل عن حرب 6 تشرين
من مقولات الرئيس والقائد المؤسس حافظ الأسد “العرب بعد حرب تشرين ليسوا كما كانوا قبله”
يصف سيد الشهداء.. الشهيد السيّد حسن نصر الله حرب تشرين الأول 1973 بالنصر التاريخيّ.
أما وزير الخارجية الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر قال وقتها “لقد فعلنا كلّ ما يمكن فعله كي لا نُمكّن العرب من تحقيق انتصار في تلك الحرب”.
اقرأ المزيد: تشرين التحريرية.. شرارة الإنتاج المحلي والاكتفاء الذاتي في سورية