الثورة – دمشق – جاك وهبه:
في السادس من تشرين الأول عام 1973، انطلقت حرب تشرين التحريرية، لتسطر صفحة جديدة في تاريخ سورية، ليس فقط في ميادين القتال، بل على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية.
لقد كانت هذه الحرب بمثابة شرارة أشعلت روح الصمود والتحدي لدى الشعب السوري، وهي اللحظة التي أعادت رسم ملامح الاقتصاد الوطني بمفردات جديدة قائمة على الإنتاج المحلي، الاكتفاء الذاتي، والتعاون المثمر بين مختلف قطاعات المجتمع.
قبل اندلاع الحرب، كانت سورية تواجه تحديات اقتصادية متعددة، لكن أحداث تشرين التحريرية شكلت نقطة تحول أساسية، جعلت من الاقتصاد السوري أكثر مرونة وقدرة على مواجهة الضغوط الخارجية، ففي خضم هذه المعركة، أدرك السوريون أن استقلال الأرض لا يمكن أن يتحقق بالكامل من دون بناء اقتصاد قوي ومتين، وهو ما دفع الحكومة السورية حينها إلى تبني استراتيجيات جديدة تهدف إلى تعزيز الصناعات الوطنية وتطوير القطاع الزراعي.
من أبرز النتائج التي تمخضت عن هذه الحرب، كان التحول في بنية الاقتصاد السوري نحو الاعتماد على الذات، بعد أن فرضت الحرب نفسها كدرس عملي في كيفية مواجهة الأزمات الاقتصادية، فبعد انتهاء القتال، بدأ التركيز على تنمية القطاعات الإنتاجية الوطنية، وأصبح الدعم الحكومي للقطاعات الصناعية والزراعية واضحاً وجلياً، فقد شهدت البلاد موجة من المشاريع التنموية التي طالت مختلف المناطق والقطاعات.
الصناعات الغذائية، النسيجية، والدوائية على سبيل المثال، شهدت انتعاشاً ملحوظاً خلال فترة ما بعد الحرب، وقد أصبحت هذه الصناعات ركيزة أساسية في توفير احتياجات السوق المحلي والحد من الاعتماد على الواردات الخارجية، كما ساهمت الحكومة في تقديم الدعم للمزارعين وتحفيزهم على توسيع رقعة الأراضي الزراعية، ما أدى إلى زيادة الإنتاجية وتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي في العديد من السلع الغذائية.
لم تكن الانعكاسات الاقتصادية لحرب تشرين مجرد تحسينات في أرقام الإنتاج والنمو، بل انعكست بشكل مباشر على مستوى حياة الأفراد، ففرص العمل التي وفرتها المشاريع الجديدة ساهمت في تحسين مستويات المعيشة لعشرات الآلاف من الأسر السورية، وأتاحت للشباب فرصاً لتحقيق الاستقرار المهني والمادي في بلدهم. في الوقت نفسه، عملت الحكومة على تحسين البنية التحتية، من طرق ومواصلات، بهدف دعم الحركة التجارية وتيسير الوصول إلى المناطق النائية التي كانت تعاني من ضعف في الخدمات.
ومن زاوية أخرى، ساهمت هذه الحرب في تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول الشقيقة والصديقة، وتوطدت العلاقات التجارية مع العديد من الدول الداعمة لسورية، ما أتاح فرصاً جديدة للتعاون الاقتصادي والاستثماري، كما ساهمت هذه العلاقات في جذب استثمارات جديدة، ولاسيما في القطاعات الزراعية والصناعية، وهو ما ساعد في دفع عجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام.
وعلى المدى الطويل، استطاع الاقتصاد السوري أن يستفيد من تلك التجربة الاستثنائية التي فرضتها حرب تشرين، فترسخت قيم الاعتماد على الذات، والعمل الدؤوب، والنهوض بالإنتاج الوطني، كما أن الاستثمار في التعليم والتدريب المهني خلال تلك الفترة كان له الأثر الكبير في تحسين المهارات والكفاءات الوطنية، ما جعل سورية أكثر استعداداً لمواجهة التحديات الاقتصادية المستقبلية.
وفي النهاية، يمكن القول: إن حرب تشرين التحريرية لم تكن مجرد انتصار عسكري، بل كانت بوابة لتغيير جذري في الاقتصاد السوري، وبفضل هذه الحرب، تعززت روح العمل الوطني المشترك، واكتسب الاقتصاد السوري زخماً جديداً كان له أثر طويل الأمد على التنمية، ولقد علمتنا تلك الحرب أن الشعوب، مهما كانت التحديات التي تواجهها، قادرة دائماً على النهوض وإعادة بناء نفسها، شرط أن تمتلك الإرادة والعزيمة الصلبة.
إن إرث تشرين التحريرية سيظل محفوراً في الذاكرة الجماعية للسوريين، ليس فقط كمعركة عسكرية، بل كرمز لقدرة الشعب السوري على تحويل الألم إلى أمل، والتحدي إلى فرصة، في سبيل بناء مستقبل اقتصادي مستدام يعزز من مكانة سورية بين الأمم.