الملحق الثقافي- نغم حامد:
ليست الجائزة الأولى التي ينالها الدكتور وهب رومية عن إبداعه النقدي، فقد سبق أن فاز بجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عام 2007 على كتابه «الشعر والناقد من التشكيل إلى الرؤيا»، وبجائزة الدولة التقديرية في مجال النقد من وزارة الثقافة السورية في عام 2020م، وذلك بفضل نتاجٍ نقدي نوعيّ، يرسم خطا طريق جديد، أقل ما يمكن أن يقال عنه: إنه يحمل الهوية العربية، فلا يلهج وراء القطيعة مبهوراً بما لدى الآخر، ولا ينكر أزمة العقلية العربية الراهنة وعجزها عن بناء منهجها، وإنما يقدم في نقده وأسلوبه الأداةَ التي يمكن من خلالها تلمّس سبل النهوض، ليس في النقد الأدبي وحسب، بل في مجمل الحياة، وهو ما دفعني إلى هذه الوقفة مع بعض كتبه للمرور بالأفكار التي ينبغي النظر فيها واستخدامها في قراءةٍ ونقد يحملان هويتنا، في مرحلة نحن أحوج فيها إلى آليات جديدة في القراءة.
الرحلة في القصيدة الجاهلية
هذا الكتاب في الأصل أطروحة الدكتوراه التي نال بها د.رومية درجة الشرف الأولى في جامعة القاهرة، مع توصية بطباعتها وتوزيعها على الجامعات العربية، وهو يمثل قراءة نقدية في شعرنا الجاهلي القديم، غير أنها قراءة مغايرة للمألوف، بعيدة عن كل قراءة تردُّ تنوع أغراض القصيدة القديمة إلى تقليد شعري محدّد المعالم نهجه الشعراء. فهي تثبت بالتحليل أن هناك روابط بين أغراض القصيدة الواحدة، يمكن إدراكها بالقراءة الواعية، وأن القصص فيها ومشاهد الصيد رمزيةٌ وتصوّر رحلة الحياة والصراع فيها. كما تسعى إلى ترسيخ مفهوم للشعر، يتمثل في أنه حديثٌ عن وجدان الجماعة وهمومها وقلقها الوجودي، فالشعراء يبدعون في تقديم الإنسانية بصورة شعرية بعد تأمل في الحياة، ولا يتحدثون عن ذوات مفردة.
وحقيقةً، هذا المفهوم لا يقتصر على الشعر بل يتجاوزه إلى الأدب والفنون عامّة، فهو السرّ وراء خلود ما خلد منها، وهو معيار نقدي حقيقي في تحديد قيمة العمل ورتبته.
بنية القصيدة العربية
يتناول هذا الكتاب بنية قصيدة المدح العربية حتى نهاية العصر الأموي، وهو يتابع فكرة بدأها الكتاب السابق، في زعزعة رؤى تعاقبت على النظر إلى هذا الشعر بوصفه مجموعة من الأغراض والفنون المختلفة، ليثبت أن النص كلٌّ واحدٌ، وأن وظيفة الشعر التعبير عن الحياة، سواء أكان مديحاً أم هجاء أم غير ذلك، وأن قصيدة المدح كانت تتطور وتتغير مع تقلبات الحياة، فتحيد تارة عن ارتباطها بالجماعة إلى التكسب، وتعود إليه تارة…
والذي أثارني في هذه القراءة إمكانية النظر إلى الشعر بطريقة جديدة نابعة من وجود جميل وقبيح في الوعي الجمعي، إذ يمكن القول: إن قصائد المدح والرثاء والفخر تتجه إلى مخاطبة النفس الإنسانية واستنهاض قيم الجمال فيها كما تتجلى في العرف الاجتماعي، في حين يتجه الذم والهجاء إلى التنفير من كل قبيح في العرف الاجتماعي أيضاً، سواء تمّ ذلك بمخاطبة الوعي أم اللاوعي. وربما صدقت هذه النظرة في الفنون الأخرى بعض الأحيان.
شعرنا القديم والنقد الجديد
ينطلق د.رومية في بداية هذا الكتاب مما يعانيه نقدنا العربي من عجز عن مواجهة المذاهب النقدية العالمية واستسلامه لها، فهو «نقد مأزوم، سليل ثقافة مأزومة امتدت إليها أزمة الحياة العربية المعاصرة، وانتهت إلى أن تكون جزءاً من الأزمة بدلاً من أن تكون عاملاً حيوياً يساعد على النهوض بالأمة والتغلب على أزمتها والتحرر منها»، وذلك نتيجة انقطاع الصلة بين الموقف النقدي والموقف الاجتماعي. وفي إيضاح الصورة يخصص د.رومية فصلاً من الكتاب للوقوف على المذهب الأسطوري نموذجاً للحداثة المموهة، وعرض بعض الدراسات التي أعادت النظر في الشعر القديم في ضوء هذا النقد، والكشف عما اعتراها من اضطراب في فهمه، وما أثمرته من تشويه.
وما يسترعي الانتباه هنا هو الإشارة إلى وجود خلفية فلسفية للمنهج النقدي، أكدها كثير من الباحثين في المناهج النقدية وطبيعتها، وهي ذاتها الرؤية الصادرة عن وعي وموقف اجتماعي. لهذا فإن الاعتماد على أدوات المنهج وتطبيقها والسعي إلى تحقيق هدفه يعكس الشرخ بين الموقف النقدي والعمل الأدبي العربي من جهة، والنسق الثقافي العربي- إذا صح التعبير – من جهة أخرى.
قد يرى بعضهم في هذا الكلام عودة إلى صراع النقاد حول قبول المناهج الغربية أو رفضها، ولكن الأمر أيسر من ذلك، إذ ليس مطلوباً قبول المنهج بتمامه، وليس مطلوباً ردّه، وإنما المطلوب تلقّي المنهج وإعادة صهره في الذات المدركة للموقف الاجتماعي والثقافي السائد، لتسهم بعد حين في تشكيل رؤية أصيلة.
من قضايا الثقافة
لهذا الكتاب خصوصية ليست لغيره. أوّلاً، لأنه يتخطى عتبة نقد الشعر إلى نقد النقد، ويجهد في تبسيط الرؤية المتمثلة في المجتمعات العربية مقابل نظيرتها الغربية من خلال ما دار في الندوات الثقافية والأدبية في دورات مؤسسة جائزة البابطين. وثانياً، لأن فيه فصلاً حمل بعبارة صريحة عنوان (نحو رؤية نقدية عربية معاصرة)، وتضمن توصيات د.رومية ومقترحاته لمعالجة أزمة النقد، وذلك بعد قراءته للمشهد الثقافي الراهن في مفاهيمه المختلفة، وللمشهد النقدي الذي تمثل في دورات البابطين وما طرحته من قضايا نحن نؤمن بها كالحوار وأهمية الاختلاف وتقبله والتأكيد على الانتماء الإنساني. قضايا لم ينكرها من يستمع إليها، بل الآخر الغربي والأميركي الذي لا يؤمن بها، ولا يسمعها، ويحاول فرض تصوراته على الآخرين، من خلال مفهوم العولمة بعد تعميمه في مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية.
وفي رؤيته النقدية يبدو أن د.رومية لا يرى في القطيعة مع التراث حلاً، لأن الإنسان أسير وعيه وثقافته، وهي ثقافة ليست محايدة، واللجوء إلى القطيعة لن يوقعنا إلا في الفوضى. وليس من حل سوى امتصاص الوافد من الغرب والانتفاع به وتطويره من دون أن يفقد النقد العربي هويته.
وفي الختام، وفي جملة اقتراحاته يثير د.رومية مجموعة من الأسئلة: من نحن؟ ما الثقافة؟ النقد وعلاقته بالثقافة، والتراث وموقفنا منه. ويترك لمتلقيه مهمة التفكّر فيها.
متعةٌ في الأسلوب
ليس المضمون وحده هو ما يميّز كتب د.رومية مع أنه يقدم رؤية مغايرة ويهز العقلية النقدية العربية السائدة، بل الأسلوب كذلك.
وأول ما يمكن ملاحظته جمال اللغة ووضوحها، والسلاسة والاسترسال في سرد المعلومات والتحليل، وتبسيطها إلى حدّ يستطيع فيه القارئ العادي والناقد المتمرس إدراك المقصود منها، إلى جانب خلوها من المصطلحات الدخيلة التي حملتها المناهج الحديثة وتعج بها كتب النقد. وليس ذلك غريباً بعد اتضاح رؤيته النقدية.
الأمر الآخر هو حضور المتلقي في ذهنه، ومحاورته في مواضع عدة، وكثرة الأسئلة المطروحة التي تحاول الإلمام بكل ما قد يخطر في ذهن القارئ وهو يقرأ.
وأخيراً، ليس ما تقدّم إلا وقفة سريعة في بيان شذرات مما في هذه الكتب، وما تشكله من معين يمكن الرجوع إليه حيناً بعد حين وإجالة الفكر فيه، وليست هي كل كتب الناقد، فما زال هناك كتابه في دراسة شعر ابن زيدون، وفيه قراءة مغايرة تخالف ما سبقها، وكذلك هناك كتابه الشعر والناقد وغيره من المقالات المنشورة في الدوريات.
يشار إلى أن الأستاذ الدكتور وهب رومية عضو في مجمع اللغة العربية في دمشق، وباحث محكَّم في: (سلسلة عالم المعرفة-الكويت)، و(مؤسسة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري-الكويت)، و(حوليات كلية الآداب-الكويت)، و(مجلة الدراسات العربية والإسلامية-الإمارات العربية المتحدة)، و(مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية)، و(مجلة بحوث جامعة حلب) وغيرها.
العدد 1209 – 15 – 10 -2024