ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحريرعلي قاسم :
لم يكن بمقدور موسكو أن تبقى صامتة أكثر من ذلك، وهي تلمس حالة من النفاق الغربي المزدوج، فكان لا بدّ من وضع النقاط على الحروف وقول الحقيقة بكل ما فيها، وأساسها أن الحكومة السورية تتحمّل العبء الأكبر في محاربة الإرهاب بالمنطقة،
بعد أن مهّدت لها وطويلاً بسيل من الإشارات والتلميحات والتصريحات التي لا تحتمل الـتأويل !!
الكلام الروسي وإن لم يكن جديداً في تفاصيله فقد كان لافتاً في عنوانه, وكافياً من الناحية السياسية لتسطير رسائل في اتجاهات متباينة ومختلفة، وفي مقدمتها أن الأمور وصلت إلى مرحلة لم يعد متاحاً فيها ممارسة سياسة النعامة، ولا حجب الشمس بغربال الأكاذيب الغربية، خصوصاً أن التطورات على الأرض تنحو باتجاه إسقاط آخر أوراق التوت التي يتستّر خلفها التحالف الأميركي وأدواته في المنطقة.
في التوقيت، لم يكن الكلام الروسي أقل بلاغة من مضمونه في ظل مناخ من الحراك الدبلوماسي المكثّف, الذي تقوده موسكو باتقان، وقد توافرت الإرادة السياسية, كما تحققت الجديّة في ملامسة لبّ المشكلة من الزوايا المغلقة أميركياً, والتي تعمّدت الرواية الغربية عموماً إغفالها وتجاهلها، وجاءت بعض المقاربات الأوروبية والفرنسية منها على وجه التحديد لتفضح ما خفي من إرهاصات المجون الغربي, بعد أن شعرت بأن الخطاب الروسي يستجمع في خانته السياسية الكثير من النقاط التي قد تكون صالحة للجولة التالية.
وهذا ما تردد صداه في العواصم الإقليمية التي تضرب أخماساً بأسداس، تكاد تتلمّس مواقع أقدامها في وحولٍ تتراكم من حولها وفي الاتجاهات المختلفة، ورغم أن بعضها قد وجد خشبة خلاصه المؤقتة في الثرثرة الفرنسية القادمة من خلف خطوط الإرهاب، وبلسان مرتزقة شعرت بأن البساط يُسحب من تحت أقدام رعاتها ومموّليها، فإن بعضها الآخر لزم الصمت المطبق بانتظار أن يرى الاستدارة الأميركية وعلى أي برّ سترسو.
في القراءات الأولية ربما جاءت الرسائل الروسية لتضع حدّاً لحقبة سياسية طالت أكثر مما يجب، وهي المرحلة التي اعتادت على التحرك الأميركي كمعيار للحديث عن أفق الحلّ السياسي، وقد تكون في جزء منها أن الحقبة التالية بملامحها ومؤشراتها نقطة تحوّل تقتضي المبادرة، وأن يكون الحامل السياسي لها دور روسي ملم بالتفاصيل ويمتلك أوراقاً أكثر مقدرة على إحداث اختراق في الجدار المغلق أميركياً.
ورغم الفارق بين الاستنتاج والوقائع، فإن ما هو محسوم اليوم أن الدبلوماسية الروسية باتت تقبض على المشهد السياسي، وتُحدث قراءة مفهومة لدى الجميع، ولا تحتمل التباساً أو تأويلاً في غير موقعه أو مكانه، بل لا تقبل أن تكون فقط إملاء لفراغ حاصل نتيجة الخروج الأميركي عن الطريق الصحيح، أو بفعل تقاعسه عن تحمّل مسؤوليته في مواجهة الإرهاب، حيث ما قام به التحالف على مدى أشهر أنجزته سورية في أيام، وما أحدثته على المدى البعيد يكاد يساوي في محصلته النهائية أو يقترب من الصفر، فداعش يبحث عن نقاط تمركز إضافية، وينتشر في مساحات قد تفوق ما كانت عليه قبل بدء عمليات التحالف الأميركي.
وهذا ما يدفع إلى الجزم بأن النقاط الروسية اليوم تجاوزت تحبير بعض الحروف الضائعة وسط موجة النفاق الغربي، وباتت تشكل بحدّ ذاتها خطاباً دولياً عابراً للمنطقة، وتعكس كلماته منطوقاً مغايراً لما كان سائداً طوال السنوات الماضية، وربما يبشّر بتدشين مرحلة لا تكتفي بمعالجة ما ينتج من استطالات السياسة الأميركية، بل يطرح مبادرات وأفكاراً ترمّم التصدّع الحاصل في منظومة العمل الدولية بشقّيها الأميركي والأممي.
في نهاية المطاف لا تقدّم روسيا نفسها بديلاً من الأميركي، ولا تدّعي التوكيل من أحد، بقدر ما تعبّر عن ذاتها التي تحاكي مبدئية في السياسة، ومصداقية في الطرح قد تصلُح حيث فشل الأميركي، وقد تكون قارب نجاة ينقذ المنطقة مما يهددها من سيول التطرّف.. بعد الغرق الأممي في سراديب التفسيرات والعجز المزمن عن المواجهة.
a.ka667@yahoo.com