الملحق الثقافي-حسين صقر:
من المعروف أن الحرية الحقيقية، لا تكمن في الانغماس الحسي، بل في تحرر النفس من أسر الشهوات والغرائز المادية، ولذلك ثمة فارق واضح بينهما، حيث الحرية بالفكر والتفكير والرأي واتخاذ الموقف ومعالجة الأمور والمشكلات، وهي تخضع للعقل والمحاكمة، بينما الرغبة هي ما نتمناه ونشتهيه، ونصبح أسرى لها إذا فقدنا العقل، ونغدو من خلالها تحت سيطرة الغرائز.
إن فكرة اللذة بحد ذاتها كأداة للرد على المواقف تُسقط الإنسان في شر أعماله، وتجعله رهينة للرد غير المناسب والذي تترتب عليه عواقب كارثية لاتحمد عقباها، وهنا يكمن دور الحرية السلبية، أي التي ترتبط بالأهواء، حيث يقول الشخص: أنا حر بتصرفاتي، لا أنت لست حراً مادمت تعيش في أسرة أو مجتمع أو حي، لأن الأدبيات تؤكد أن الحرية الشخصية تحديداً، تبدأ عند انتهاء حرية الآخرين، فالفتاة بدار أبيها ليست حرة، ولا الزوجة في بيت زوجها، ولا الزوج في شراكته مع زوجته، ولا الجار يستطيع التصرف كما يحلو له، ويتسبب بإزعاج غيره، لأن ذلك يدخل في إطار الرغبة وربما الانحراف عن المسار الصحيح الضابط للعلاقات الاجتماعية، والذي يرسي قواعد تلك العلاقات.
الباحثون والأكاديميون وخبراء علم الاجتماع ذكروا كيف للمجتمع العلماني المعاصر أن يعيد تشكيل الرغبات الإنسانية، ويحولها إلى مجرد وسائل استهلاكية، بحيث أصبحت الحرية الفردية تُقاس بمقدار ما يمكن للفرد أن يشبع من هذه الرغبات، لكن من منظور ديني وفلسفي، هذه الرؤية تتجاهل أن الحرية المحضة ترتبط بالمسؤولية الأخلاقية والعلاقة بالله والعباد، حيث إن الإنسان مسؤول أمام الله عن أفعاله وأهدافه في الحياة، كما أنه مسؤول أمام من حوله، وهذا يتناقض مع ما يروج له المجتمع الاستهلاكي الذي يركز على اللذة الفردية، والتي يرغب بها أي شخص، حيث النفس أمّارة بالسوء، ومن سيطر عليه هواه أسقطه وأهواه، ولذا لابد من المحاكمة العقلية والمنطقية في كل موقف نواجهه، بحيث نتجاوز عواطفنا وما نرغبه، ونرتقي فيه إلى ما يأمرنا به العقل، ويشير فيه المنطق.
فاللذة التي تدفع الإنسان للانغماس في الشهوات هي نوع من العبودية، لأنها تقيد الإنسان برغباته الوقتية، وتفصله عن القيم الروحية والمعنوية التي تمنحه عمقاً وجودياً حقيقياً، وهذه اللذة المستهلكة كما أكد علماء الاجتماع تقود إلى ضمور الوعي بالحياة العامة، وتخلي الإنسان عن دوره كمواطن فاعل. من هنا، نجد أن العلاقات الإنسانية الصحية تحث على تحقيق التوازن بين الرغبات الجسدية والروحانية، والله سبحانه وجه وأمر بأن نبتغي فيما أتانا من الآخرة، دون أن نتسى نصيبنا من الدنيا، ولكن بشرط ألا نضر من حولنا، فما دامت الرغبة بتناول بعض من حبات الفاكهة مثلاً، يمكن أن نقضيها طلباً أو شراءً أو ضيافة، ولكن لا نحصل عليها سرقة، فقط لأن رغبتنا بتناولها أصبحت لا تطاق، فأين دور العقل إذاً؟!
وحبات الفاكهة مثال بسيط عن أشياء كثيرة نعيشها ونبتغيها، ولهذا فالدعوة إلى العيش بحكمة وتعقل، هو الغاية الأسمى والهدف الأفضل، بحيث لا تتحول الحياة إلى مطاردة محمومة للملذات، بل وسيلة لتعمير الأرض والتقرب إلى الله والبشر.
الفهم الأعمق للحياة ينطلق من هذه النقطة ويعود إليها، وهو ما يشكل كروية العقل والمنطق، ويعيد تشكيل الذات بحيث تصبح أكثر استقلالية وقدرة على التحكم في الرغبات، فلا يصبح الإنسان عبداً للنزوات التي تفرضها عليه وسائل الإعلام أو المجتمع الاستهلاكي، أو علاقات العمل والمدرسة والجامعة والمصادفة.
فالعقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحكمة، والأخيرة هي أم العلوم ومبتغاها، لأن لغتها يقصد بها جميع الأفكار التي يستنبطها العقل وتدفعه الى التفكير، وهي العلم والمعرفة والتأمل والتفكير التي تقوم على البحث عن الحقائق وتحليلها وتفسيرها، كما أنها النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع، بمعنى أنها طريق لمعرفة الله وقدرته، وهو ما ذكره ابن رشد.
لذا العمل والجهاد من أجل الخروج من مستنقع الرغبات، يضعنا لا محالة على شواطئ العقل المملوء بالأمن والسلامة، ويحبطنا بهالة من الطمأنينة وراحة البال والضمير، والتي لا تعادلهما راحة في الكون، وهو ما يعيدنا إلى الحرية الحقيقية التي تقترن بالعقل والمنطق وتنبذ بقوة الغريزة وقد تساير العاطفة دون أن يضر ذلك من حولنا.
العدد 1213 – 12 – 11 -2024