الثورة – ترجمة ختام أحمد:
على مدى أكثر من عام، دفن أسياد الحرب في “إسرائيل” والولايات المتحدة، بمساعدة وسائل الإعلام الكبرى، الحقيقة تحت أنقاض غزة. وعملت وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة كمن يقطع الخشب ويسقي الماء للإمبراطورية.
لقد حولت وسائل الإعلام المعاناة المروعة التي يعيشها الفلسطينيون وحملة الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” في غزة إلى مجرد قصة إخبارية أخرى ـ مجرد “غطاء مقبول” نمارس من خلاله حياتنا اليومية. كما تقدم لنا هذه التأملات نظرة ثاقبة إلى الكيفية التي تم بها تصوير النظام الإسرائيلي الغارق في الدماء باعتباره الضحية والجندي الصالح الذي يستحق الدفاع عنه.
“إسرائيل” خبيرة في الخداع الإعلامي، فعلى مدى نصف قرن من الزمان، عملت على تحديد الرواية والسيطرة على بيئة المعلومات من أجل إخفاء احتلالها العنصري الوحشي وأهدافها التوسعية في فلسطين. وقد غمرت الجماهير، وخاصة في الولايات المتحدة، بمعلومات مواتية لـ”إسرائيل” وقمعت المعلومات التي تحدت روايتها.
لقد تم تدريب مذيعي التلفزيون والصحافيين و”المثقفين” في مراكز الأبحاث المنتشرة في العاصمة الأمريكية على قبول والدفاع عن الشعار السياسي الإسرائيلي وتشويه حجج أولئك الذين يتحدون زيفه.
إن الرقابة الذاتية التي تمارسها وسائل الإعلام المؤسسية، وعدم الإبلاغ عن الأحداث، وتعديل الفظائع، والفشل في وضع التجربة الفلسطينية في سياقها تحت حكم الفصل العنصري، والأمر الأكثر فظاعة، تجاهل تواطؤ أميركا في بناء نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والحفاظ عليه على مدى 76 عاما، ساهمت في خلق بيئة شجعت “إسرائيل” على أن تصبح عنيفة بشكل متزايد.
كانت أسوأ الممارسات الصحفية واضحة بعد هجوم 7 تشرين الأول 2023. فقد سمح مديرو العقول لإسرائيل بتحديد معالم الرسالة، و”ما يمكن/لا يمكن كتابته وقوله”. وستتم التغطية بالطريقة الإسرائيلية – من خلال عدسة عسكرية. تخضع جميع المؤسسات الإخبارية الأجنبية العاملة في “إسرائيل” لقواعد الرقيب العسكري، مع السماح فقط بموضوعات معينة. من الشائع، على سبيل المثال، أن يقرأ أو يسمع الصحفيون تقاريرهم بعبارة “قالت إسرائيل”.
ولم يحظ رفض “تل أبيب” السماح للصحفيين الأجانب بالوصول إلى غزة، والرقابة الداخلية التي يفرضها النظام على وسائل الإعلام وحظرها، والـ 128 صحفياً وموظفاً إعلامياً فلسطينياً في غزة، الذين استهدفهم الجيش الإسرائيلي وقتلهم، إلا بقدر ضئيل من الاهتمام.
وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام أعطت قدراً هائلاً من التغطية للقصص الإسرائيلية التي تم فضحها الآن حول عمليات القتل الجماعي وقطع رؤوس الأطفال والادعاءات بارتكاب عمليات اغتصاب واسعة النطاق ومنهجية خلال هجوم تشرين الأول، فإن مثل هذا الاهتمام لم يحظ بـ “توجيه هانيبال” و”عقيدة الضاحية” الإسرائيليتين.
في السابع من تشرين الأول، أعطى الجيش الإسرائيلي قواته الإذن بتنفيذ توجيه هانيبال، ويسمح هذا التوجيه الذي تم تبنيه في عام 1986 للجنود بقتل مواطنيهم إذا كان من المقرر أن يخطفهم أعداؤهم أحياء. وقد كشفت مجموعة متزايدة من الأدلة أن مئات الإسرائيليين الذين لقوا حتفهم في ذلك اليوم لم يقتلوا على يد حماس، بل على يد جنودهم.
أصبحت “عقيدة الضاحية” سياسة عسكرية رسمية بعد الهجوم الإسرائيلي المدمر على لبنان في عام 2006. وتدعو هذه العقيدة، التي سميت على اسم الضاحية في بيروت، والتي تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي، إلى استخدام القوة الهائلة وغير المتناسبة والاستهداف المتعمد للمدنيين والبنية التحتية المدنية في الحروب المستقبلية.
لفترة طويلة للغاية، تم استخدام روايات مضللة ولم يتم إيلاء سوى اهتمام ضئيل لسياسات “إسرائيل” التي لا يمكن الدفاع عنها. وهذا ينطبق بشكل خاص على قرار التقسيم رقم 181 (1947) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي استخدمته “إسرائيل” لإعلان قيامها وفي استعمارها لما تبقى من فلسطين التاريخية.
لقد ترك تجاهل سنوات من حكم الفصل العنصري الإسرائيلي والحصار الذي دام ستة عشر عاماً لقطاع غزة انطباعاً لدى الجمهور بأن هجوم تشرين الأول كان عملاً عنيفاً عشوائياً غير مبرر. ولم يسمع الجمهور سوى القليل من التفاصيل عن الحصار الخانق الذي فرضته “إسرائيل” على غزة عندما انسحبت منها في عام 2005، تاركة وراءها خطة انسحاب مقيدة تحتفظ بالسيطرة الحصرية على المجال الجوي لغزة، والمياه الإقليمية، والحدود، والكهرباء، وإمدادات المياه، وحركة الناس والبضائع.
يكشف التاريخ أن هناك صلة مباشرة بين الاحتلال والعنف؛ وأن الشعوب المحتلة سوف تستخدم أي وسيلة متاحة لها لكي تكون حرة، بما في ذلك العنف.
ويؤكد القانون الدولي ( اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949) على حق حركات التحرر الوطني في المقاومة واستخدام القوة ضد الاحتلال العسكري.
ومن خلال عدسة أكثر دقة، يمكن النظر إلى تحرك حماس في السابع من تشرين الأول باعتباره رد فعل معقول ومتوقع على المشروع الاستعماري الإسرائيلي العنيف الذي لا نهاية له.
في إطار فقاعة وسائل الإعلام المؤسسية، استخدم الكتاب الأميركيون لغة سياسية للترويج لإسرائيل. وتم وصف حركات التحرير الوطني التي تقاتل ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية والهيمنة الأميركية بأنها إرهابية “مدعومة” من إيران. في حين أن “دعم” واشنطن للمتعصبين الإباديين في تل أبيب هو “مساعدة” لحليف. وتم وصف القيادة السياسية في إيران بأنها “نظام”، في حين تقود إسرائيل “حكومة” ديمقراطية.
يُصوَّر الوجود القمعي الإسرائيلي في الضفة الغربية على أنه “دفاعي”، بينما ينهب المستعمرون اليهود، المحميون من قبل جيشهم، منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم وحساباتهم المصرفية ويستولون عليها. ووفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية، قُتل ما لا يقل عن 716 فلسطينياً، بينهم 160 طفلاً، على يد الجيش الإسرائيلي وهجمات المستعمرين غير القانونيين في الضفة الغربية المحتلة منذ 7 تشرين الأول2023.
بعد عام من الحرب، أثبتت “إسرائيل” أنها ليست ديمقراطية، بل هي كيان عنصري؛ أنها ليست أرض الميعاد، بل هي مشروع استعماري استيطاني؛ أنها ليست دولة تحت الحصار، بل هي دولة معتدية؛ أنها لا تدافع عن نفسها، بل تشن حرب إبادة جماعية في غزة.
ورغم صدور عدد من التقارير المهمة عن الواقع في غزة، فإن وسائل الإعلام لم تولها إلا القليل من الاهتمام، إن وجد. ولقد ظلت هذه التقارير في جهل تام إلى حد كبير. ومن بين هذه التقارير:
جامعة براون، معهد واتسون، ” إنفاق الولايات المتحدة على العمليات العسكرية الإسرائيلية والعمليات الأمريكية ذات الصلة في المنطقة، 7 تشرين الأول 2023-30 أيلول 2024.
معهد واتسون، ” الخسائر البشرية : الوفيات غير المباشرة نتيجة للحرب في غزة والضفة الغربية، 7 /تشرين الأول 2023 فصاعدا”.
رسائل الرعاية الصحية في غزة، 2 /تشرين الأول 2024 رسالة مفتوحة إلى الرئيس جو بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس، موقعة من قبل 99 طبيباً ومهنيين طبيين آخرين خدموا في غزة العام الماضي.
وبحسب معهد واتسون، أنفقت إدارة بايدن 22.76 مليار دولار لتمويل الإبادة الجماعية في غزة. وفي رسالتهم المؤرخة في الثاني من تشرين الأول، وهي واحدة من العديد من الرسائل الموجهة إلى البيت الأبيض، أفاد العاملون في مجال الرعاية الصحية أن 62413 شخصاً في غزة ماتوا جوعاً وأن عدد القتلى ربما يكون أكبر من 118908.
إن إبقاء “نحن الشعب” في الظلام أمر خطير ومكلف، إننا في حاجة إلى أن نستعيد في أذهاننا الأكاذيب التي قادتنا إلى الحروب في فيتنام وأفغانستان والعراق وأماكن أخرى.
إن محاولة إقناع الرأي العام بأن اغتيال زعماء المقاومة المعارضين للهيمنة الأميركية الإسرائيلية في فلسطين والمنطقة سوف ينهي نضالهم من أجل الحرية أمر غير صادق. ذلك أن شبكة الخداع المعقدة التي تديرها واشنطن و”تل أبيب” ووسائل الإعلام الكبرى لن تنجح في صد المقاومين.
وكما أثبتوا منذ أكثر من سبعة عقود، فإنهم سادة أحكامهم وقراراتهم وأفعالهم.
المصدر – أنتي وور