الأدب والفلسفة

الملحق الثقافي-رولا محمد السيد:
تبدو العلاقة بين الفلسفة وغيرها من فروع الثقافة الأخرى علاقة إشكالية غير قابلة للفهم عند بعض الأدباء والفلاسفة؛ إلا أن الباحث المتعمّق والأديب الحصيف يدرك أن ثمة علاقة وثيقة بينها وبين غيرها من الفروع الثقافية والأجناس الأدبية.
الفلسفة كما يقال هي أم العلوم، لذلك تتعلق بكافة صنوف العلوم النظرية والتطبيقية والعملية.
لذلك الفلسفة لها علاقة مع كل الأجناس الأدبية والثقافية، وكما يقول الدكتور محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتاب العرب في محاضرة له في كلية الآداب، هي علاقة يؤكدها كبار الفلاسفة المشتغلون على سمو العلاقة الفلسفية الأدبية ورفعتها.
الشعر عند «هايدجر» تأسيس للكينونة عن طريق الكلام، وكذلك البحث عن الفكر عن طريق الخيال والاستعارة، ولهذا فإن بعض الفلاسفة من الشعراء مثل ابن عربي رأى في الخيال، وهو عماد الشعر، ضرورة للوصول إلى المعرفة، على حين يرى صلاح عبد الصبور أن الشعر والفلسفة هما القوة الدافعة إلى تغيير العالم: «إن شهوة إصلاح العالم هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر».
ولما كانت الفلسفة والشعر هما المصدرين الأساسيين للوعي كما يرى الباحث الحوراني، فإن كليهما يسعى نحو إدراك الحقيقة والبحث عن المعرفة.
فمثلاً ابن سينا نظم نظريته في النفس الإنسانية شعراً، وجسّد نيتشه الفلسفة الحديثة بثلاثيته الفلسفية في إرادة القوة، والإنسان الأعلى، والعود الأبدي، وقد قدّمها في قالب شعري يعتمد الاستعارة أسلوباً، ولهذا فقد جمع كبار الشعراء بين الشعر والفلسفة مثل أبي العلاء المعري شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعراء، وهو الخطّ الذي سار عليه المتنبي وأبو تمام وأدونيس ومحمود درويش وغيرهم من الشعراء المشتغلين بالأسئلة الفلسفية والشعرية، ولهذا فلا غرابة أن يكتب أحدهم كتاباً بعنوان: «درويش على تخوم الفلسفة.. أسئلة الفلسفة في شعر محمود درويش» بسام قطوس.
ولما كانت الموسيقا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعر وغيره من الفنون فقد ذهب بعض الباحثين، كما يرى الحوراني إلى الحديث عن أثر الموسيقا في فلسفة نيتشه؛ التي عدّها «الحقيقة الماهوية للعالم» وهو الذي عُرف بحبه لموسيقا فاغنر، وللشعر الذي له إيقاع يشبه اللحن الموسيقي، والموسيقا لديه هي أحد جذور الشعر، ولهذا كتب: «فوق الحافة المتألّقة»، كما أنّ كتاباته كانت مملوءة بخصائص الشعر؛ من إيقاع بين الجمل واستعارات وتشبيهات ورموز، فهو يتمتع بتفكير حدسي يعتمد على الصور والخيال والقدرة على الاستنباط؛ فشخصية زرادشت الهائم الذي يتجوّل في بلاد شتى غريبة هي شخصية نيتشه نفسه، وقد أصبح زرادشت على وجه الخصوص رمزاً لنيتشه ومفتاح أسرار فلسفته.
ولم يكن طرد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة بسبب رفضه للشعر ونكرانه له، بل لأن بعض الشعراء، كما يعتبر الدكتور الحوراني، آثروا تقديم المعاني الفاسِدة وإثارة العاطفة التي تبعد المتلقي عن الحقيقة، وتهدم الأسس الأخلاقية التي أرادها أفلاطون في جمهوريته، ولهذا طالب باستبعادهم من جمهوريته وطردهم منها انطلاقاً من منظوره الأخلاقي، منكراً، في الوقت نفسه، حديث الشعراء الغامض وطريقة الطرح البعيدة من الواقع في كتاب الجمهورية الأول، وكان على الشعر وقتها الدفاع عن ذاته، وتقديم الأطروحة التي تبقيه حياً في شخصية العالم، وكان على الشعراء حذف مهمة التشويش عن عقول البشرية، والاقتراب من الحكمة والخير والواقعية في كتاباتهم ونصوصهم، وهي الأسس التي رأى فيها سقراط محاكاة لعقول الناس لتكون بمنزلة معرفة لا بدّ منها لنهضة الإنسان، حينها يمكننا القول: إن الشعر أعلى من الفلسفة، لأنه يعلّم الناس من الخير والحكمة أبعد مما تهدف إليه الفلسفة، من خلال إجمال المشهد الإنساني في صور فنية، وغوص في العمق الذاتي للإنسان، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في ترسيخ المعنى، وإخفاء الحياة على الأثر المتردّد في الروح إبان الخشوع لإيماءة الخيال، ولهذا شبّه الشعر بالموسيقا لأنهما يترجمان ما يقوله الإحساس، ولما كانت العلاقة بين الفلسفة وغيرها من فروع الثقافة والأدب قوية وراسخة، كان لا بدّ أن تتناغم الفلسفة وتتحاور مع الشعر والسرد؛ وأن يكون بينهما تواشج كبير في المعنى والمبنى، وهو ما جعل الناقد المصري حسين حمودة يقول: إن علاقة الرواية والأدب عموماً، بالفلسفة علاقة قديمة ومتجدّدة، قطعت مسيرة طويلة ومرّت بأشكال متعددة، وخلال تلك المسيرة تراءت في الثقافة الغربية أعمال كثيرة من «محاورات أفلاطون» إلى «كاندير» لفولتير وحتى «الغريب» لألبير كامو و«الذباب» لسارتر، فضلاً عن كثير من الكتابات العربية مثل «حي بن يقظان» لابن طفيل، و«الغربية الغريبة» للسهروردي، وكتابات جبران خليل جبران ونجيب محفوظ وإبراهيم الكوني، وكلها أعمال انطلقت من اهتمامات فلسفية لأصحابها، وهو ما يؤكّد التعالق الكبير والصلة الوثيقة بين الفلسفة والرواية؛ بل إن المتعمّق بهذه الأعمال وغيرها يؤكّد تشابك الفلسفة فيها مع التصوّف والحكمة والنفس والطبيعة.
أما عن الرواية والفلسفة، فإنه إذا كانت الفلسفة في أساسها تقوم على البحث عن الحقيقة، العقل، المعرفة، الوجود واللغة، فإن الرواية تستخدم اللغة والخيال لتؤثر في عواطفنا وتجعلنا نتماهى مع الشخصيات التي نكتبها، ولهذا لا غرابة أن تشكّل رواية «الغريب» لألبرت كامو واحدة من الأعمال ذائعة الصيت في مسار الأديب والفيلسوف، حيث تجسّد أفكاره حول العبث والوجودية بأسلوب أدبي وعمق فلسفي لا مثيل له في فن الرواية.
ولما كانت علاقة الفلسفة بالشعر والموسيقا والرواية علاقة قوية كما يصنف الحوراني، كان من الطبيعي أن يكون للفلسفة دورها الكبير في تكوين الفكر النقدي من خلال إيمانها العميق بأن لكل عصر من العصور إشكالاته الخاصة، وتأسيساً على هذا فإن التفكير النقدي كان هو البرهان الأساس في معالجة كل إشكال على حدة؛ دون نسيان ربط الفلسفة بالواقع المادي الذي تتشكل مواده الطبيعية وفق المرور من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، عبر عقلنة أدوات الاشتغال لبناء الخطاب النقدي، وهكذا تستطيع الفلسفة تكوين الفكر النقدي عبر ممارسة التفلسف بأدواته المعروفة من دهشة وشك وتساؤل وصولاً إلى الوعي بالذات وبالعالم والفعل فيهما بعقلانية ومنطق.
من هنا يقول الدكتور الحوراني: إن العلاقة بين الفلسفة وفروع الثقافة الأخرى بأمسّ الحاجة إلى قراءة جديدة واعية ومختلفة، قراءة تقوم على التكامل والجمال المعرفي، انطلاقاً من الفكرة القائلة إن الفلسفة هي جذع شجرة تخرج منها ثمرات العلوم، أما الجذور القوية الضاربة في عمق التربة فهي الميتافيزيقيا التي يجب أن تكون في غاية الثبات.
                       

العدد 1214 – 19 – 11 -2024 

آخر الأخبار
قادمة من ميناء طرابلس..الباخرة "3 TuwIQ" تؤم  ميناء بانياس "الزراعة الذكية"  للتكيّف مع التغيرات المناخية والحفاظ على الثروات   "التربية والتعليم": مواءمة التعليم المهني مع متطلبات سوق العمل إجراءات خدمية لتحسين واقع الحياة في معرّة النعمان من قاعة التدريب إلى سوق العمل.. التكنولوجيا تصنع مستقبل الشباب البندورة حصدت الحصّة الأكبر من خسائر التنين في بانياس  دعم التعليم النوعي وتعزيز ثقافة الاهتمام بالطفولة سقطة "باشان" عرّت الهجري ونواياه.. عبد الله غسان: "المكون الدرزي" مكون وطني الأمم المتحدة تحذِّر من الترحيل القسري للاجئين السوريين الجمعة القادم.. انطلاق "تكسبو لاند" للتكنولوجيا والابتكار وزير العدل من بيروت: نحرز تقدماً في التوصل لاتفاقية التعاون القضائي مع لبنان "الطوارئ" تكثف جهودها لإزالة مخلفات الحرب والألغام أردوغان: اندماج "قسد" بأقرب وقت سيُسرّع خطوات التنمية في سوريا "قصة نجاح".. هكذا أصبح العالم ينظر إلى سوريا علي التيناوي: الألغام قيد يعرقل عودة الحياة الطبيعية للسوريين مدير حماية المستهلك: تدوين السعر مرتبط بالتحول نحو مراقبة السوق الرابطة السورية لحقوق اللاجئين: مخلفات الحرب تعيق التعافي "تربية حلب" تواصل إجراءاتها الإدارية لاستكمال دمج معلمي الشمال محافظ إدلب يلتقي "قطر الخيرية" و"صندوق قطر للتنمية" في الدوحة "تجارة دمشق": قرار الاقتصاد لا يفرض التسعير على المنتجين