الملحق الثقافي- عاطف صقر:
تعتبر الترجمة دائماً باباً للفضول والاستكشاف والمقارنة والمعرفة، ولطالما ساهمت في التمازج الحضاري، وفي تطور العلوم والفنون، وتقاس جودتُها بمدى قدرة النص المترجَم على الإحاطة بجميع ما اكتنفه النصُّ الأصلي من معلومات ومن عواطف ومن إيماءاتٍ ودلالاتٍ وإسقاطاتٍ فلسفية وفكرية وتراثية، وحتى بنيوية وسردية ولغوية، فإذا كان من أحد توصيفاتها بأنها خيانةٌ للنص، فإنها بلا ريب ومن منظور آخر خدمة للنص، وخدمة للمعنى وخدمة للثقافة الإنسانية.
هذه الخِدمة تزداد رفعةً وقيمة كلما ازدادت براعة المترجم في النقل الأمين لروح النص وتقنياته، خاصة إذا كانت المادةُ الأصلية عملاً ذا طابع أدبيٍّ أو فني أو فلسفي، لأنه في مثل هذه الأعمال -وخلافاً للنصوص العلمية أو التجارية أو الصناعية وغيرها- نجد أن من العقبات الكبيرة أمام المترجم إيصالَ الدلالات غير المباشرة للنص، وكذلك مستويات التأويل المتعددة، ونقل التفاصيل المتعلقة بثقافات الشعوب، فقد تكون البومة مثلاً نذير شؤم عند شعب، وبشير خير عند شعب آخر، وقد تكون المساكنة حالة شاذة في تقاليد شعب، لكنها حالةٌ طبيعية عند شعب آخر وهكذا ..
وكما الخوض في الكتابة يعتبر مغامرة كبيرة، ويحتاج لمقوّمات كثيرة على رأسها الموهبة، فالترجمة كذلك، هي مغامرة حقيقية ومسؤولية كبيرة وتحتاج لتلك لموهبة والاحترافية، وهذا ما امتلكته الصديقة الأديبة لودميلا ندّه التي لم تكتف بجانب واحد من المغامرة بأن تترجم كتاباً محدداً لكاتب محدد، بل زادت على ذلك بأن قررت وعلى مسؤوليتها وذائقتها ورؤيتها أن تختار عدة نصوص لعدة كتاب من عدة بلدان، لتضيف إلى المكتبة العربية مولوداً جديداً هو باقة من القصص القصيرة، في كتاب جميل الطباعة والإخراج صدر عن دار بحر وعنونته «ساحة الدار».
ساحة الدار:
ضم الكتاب الذي أهدته المترجمة إلى أسرتها الصغيرة، عشر قصصٍ قصيرة، أوّلها القصة التي حمل الكتاب عنوانها «ساحة الدار» وهي للكاتب البنغالي هامير الدين مدّاي من مواليد 1997، كاتب معاصر شاب وحائز على عدة جوائز أدبية.
تدور أحداث القصة في قرية تجتمع فيها الجارات في ساحة دار إحداهن يتبادلن الأحاديث المتنوعة وهن يغزلن أو يقمن بأعمال صناعات يدوية بسيطة، لكن حدثاً طارئاً غير مسار تلك الجلسات العفوية الاعتيادية، وهو بناء سور لذاك المنزل، فتنقل الجاراتُ جلساتِهن إلى ساحة أخرى، ويبنى سور آخر .. وهكذا إلى أن تصبح لكل البيوت أسوار، تلك الأسوار منعت الجلسات وباعدت بين رفيقات الأمس، لتصبح كلُّ واحدة منهن خاضعة من جهة لقيود السور، لكنها منعتقةٌ منه باستحضار ذكرياتها الجميلة عن تلك الجلسات.
قصة بالغة الدلالة والجمال، أهو هجوم الإسمنت على الطين؟ أم هجوم السور على الحرية؟ أم هجوم المدنية على العلاقات العفوية البسيطة؟ أم هجوم أفكار عصفت بالعواطف، وباعدت بين البشر، وأسست للانغلاق لدرجة ان رائحة طبخة لم تعد تعبر السور؟ أم هي حالة قمعية تعيشها المرأة عموماً؟ وهل أحاديث النسوة كانت حاجةَ النساء للثرثرة؟ أم حاجة الكائن البشري ليأنس بالناس، ليصحَّ المثل (الجنة بلا ناس ما بتنداس)، القصة لا تتبنى الحنين للقديم، بل تتبنى الأنسنة والإنسانية، والتواصل البشري الذي يكاد يصبح معدوماً تحت ضغط بنى اجتماعية صاعدة أساسها بناء الأسوار المادية والمعنوية بين البشر، فكيف بالمستجدات الأحدث والتي جعلت مما يسمى وسائل التواصل أخطر جدرانِ التباعد؟
الرحلة:
القصة الثانية بعنوان الرحلة للكاتبة كاترين مانسفيلد، من مواليد نيوزيلاندا 1888، توفيت سنة 1923،
نلاحظ هنا الفرق الزمني بين القصة الأولى والثانية، وبالتالي الفرق في الأسلوب ففي حين امتازت الأولى بالتكثيف، والاختزال، جاءت قصة الرحلة متوافقة مع أساليب القص في بدايات القرن العشرين، فاهتمت بالتفاصيل والصورة، وبثت ضمن تلك التفاصيل الفكرة العميقة للقصة، قصة فتاة أصبحت يتيمة فاضطر أبوها أن يرسلها لتعيش عند جديها، وكيف تجاوب الجدان الهرمان مع الأمر … قصة غنية بالعواطف الإنسانية، وعلاقة الجد بالحفيد.
ما أعاده المد:
القصة الثالثة بعنوان ما أعاده المد للكاتبة أمينه غوتييه أميركية من مواليد1977 فائزة بعدة جوائز أدبية.
للدخول إلى القصة أقتبس منها: إنهم ليسوا الأطفال الذين أرسلتهم على متن الطائرة، إنهم ما عاد به المد.
بين بروكلين وبورتوريكو، بين الفقر والغنى، بين أم مطلقة ترسل أبناءها لرؤية أبيهم الغني المتزوج ليقضوا عنده عطلة الصيف، وأب يعيش في بيئة ومستوى اجتماعي مختلف، تدور الأحداث، ما الذي طرأ على الأولاد بعد تلك الإجازة؟ هل تغيرت عاداتهم أم تغيرت نظرتهم للحياة، أم تغيرت عواطفهم، أم ألفاظهم، أم أن شيئاً عميقاً ورغم كل بهرجة الحياة الغنية المصطنعة لم يتغير؟ أترك ذلك لمن يرغب بقراءة القصة فهي قصة جديرة بالتأمل والقراءة.
الرجل في المرآة:
القصة الرابعة للكاتب الأميركي داريل كيس بعنوان الرجل في المرآة، وهو من مواليد 1945.
خمس وخمسون عاماً من الزواج، من كان فيها مرآة من؟ قد أتساءل ويتساءل كثيرون معي عن السعادة الزوجية؟ هل هي في الذكريات المجنونة أم في الأوقات الهادئة، أم في ليلة زفاف عُمِّدتْ بدم المصادفة والمفارقة المرحة لتصبح ذكرى من الذكريات الغالية على العجوزين الجميلين .. قصة رومانسية حالمة دافئة، يمكن من خلال قراءتها أن تبعث في النفس تفاؤلاً نحن بأمس الحاجة إليه.
جائعة كالذئب:
القصة الخامسة للكاتبة أمينة غوتييه التي سبق التعريف بها وهي بعنوان جائعة كالذئب:
في الحقيقة هذه القصة من أبرز قصص المجموعة، ربما تستند في نسيجها القصصي إلى القصة الشهيرة ليلى والذئب (أو ذات الرداء الأحمر)، حيث أنه من المفترض أن يأتي الذئب ليأكل العجوز غدراً وحيلة، فماذا لو كانت العجوز الوحيدة المنسية هي من تطلب ذلك؟ وماذا لو كان الذئب يتفضَّل عليها بما يمكن أن نسميه القتل الرحيم؟ وماذا لو كان اكتراث المفترس بالفريسة أهم عند الفريسة من أن لا يكترث بها أحد؟ قصة فلسفية عميقة تحتمل قراءات وتأويلات عديدة بما في ذلك ردود فعل المجتمع لطرفي القصة، لا أريد إفساده برواية أحداثها وأترك للجميع متعة قراءتها.
من وزع الأوراق:
القصة السادسة بعنوان من وزع الأوراق للكاتب الأميركي لينغ لاردنر.
من المفيد في فن القص أن يكون للعنوان دلالات كبيرة، وهذا ما ينطبق على هذه القصة، من وزع الأوراق؟ لنتساءل بصوت عال: من وزع الأوراق؟ ونصمت قليلاً ولنتخيل إجابة.
ربما تأتي هذه القصة بوجهة نظر مناقضة لما جاءت به قصة الرجل في المرآة، أصدقاء قدامى يلعبون الورق زوجان وزوجتان، إحدى الزوجتين يبدو أنها تحب الثرثرة، وتعلق على كل شاردة وواردة، فيما الآخرون صامتون، لكن لنتمهل قليلاً، هل هي حقاً تثرثر أم تشكو وتتظلّم بعبارات متذاكية مبّطنة تشي بأنها تعرف، وتشي بأنها تتألم؟
ماذا عن بقية الأطراف؟ زوجها، والرجل الآخر وزوجته؟ ما علاقة حديث الزوجة بالماضي، وبالعلاقات الخفية، وما هو المسكوت عنه من الجميع، قصة اجتماعية قابلة لتعدد القراءات والرؤى فيها استخدام بارع لسيكولوجيا الإنسان، وهي بشكل أو بآخر تمس حالات كثيرة في المجتمعات وخصوصاً المعاصرة.
العدد 1214 – 19 – 11 -2024