الملحق الثقافي-نداء الدروبي:
لكلِّ مبدعٍ إنجاز ولكلِّ رسامٍ حكاية نقرأ عنها ونعجب بها.. إنهم فنانون مؤسِّسون أغنوا الحركة التشكيلية السورية بإبداعاتهم التي لاتزال تزين جدران متاحفنا الأثرية.
ونحن نتكلم اليوم عن الفنان الكبير إسماعيل حسني حقّي المولود في رأس العين التابعة لمدينة ديرالزورلأسرة ريفية.. في حين تذكر بعض المصادر أنه انتقل إلى مدينة الميادين مع أسرته بحكم عمل والده كموظف في قطاع الدولة، ثم إلى مدينة حلب ولم يتم بعد بضعة أشهر من عمره. فقدَّم له هذا الانتقال من بلدة ريفية صغيرة إلى حاضرة كبيرة فرصة تحديد مسار حياته.
وهكذا اتضحت موهبته في الرسم منذ نعومة أظفاره. وفي المرحلة الابتدائية لاحظ معلِّموه موهبته القوية فتابعه الفنان الكبير منيب النقشبندي في المرحلة الثانوية وتعلَّم منه أصول فن الرسم إلى جانب اهتمامات إبداعية متنوعة أزهرت لديه في الأعوام التالية في القصة والنقد والبحث التاريخي والفني والمسرح .
ففي عام (١٩٣٨) نشر مجموعة قصصية من ضمنها قصة (عابر سبيل)، التي مُثِّلت سينمائياً وهو أول فيلم سوري ناطق، كما كتب بعض المسرحيات والنقد الفني بلغة علمية جديدة. ونظراً لعلومه الفنية (سُمِّي بشيخ الفنانين) في حلب، وبجانب ذلك صمّم ديكور مسرحية (هبط الملاك في بابل) لوليد إخلاصي، وأوفدته بلدية حلب لدراسة الفن في إيطاليا عام (١٩٥٢ ).
وفي عام ١٩٥٣ عمل كمذيع في القسم الغربي بالإذاعة الإيطالية.ثم تخرَّج عام (١٩٥٦) في قسم الزخرفة بإيطاليا، كما درس الإخراج المسرحي في أكاديمية المسرح الحر في روما، وإثرعودته منها قام بتدريس الفنون في مدارس حلب ودير الزور وفي كلية العمارة بحلب.
شارك حقّي في معارض جماعية وأخرى فردية منذ عام (١٩٥٢) في كلٍّ من حلب والجزائر وإيطاليا، كما درَّس الفن في معاهد وجامعة حلب والجزائر، وشهد رحيل صديقه الفنان (أسعد المدرِّس) في الجزائر، أما هو فقد توفى عام (١٩٨٠).
إنه من جيل الرواد الأوائل وشريك نهضة الفن التشكيلي في حلب صاحب البصمة الأهم تخرَّج على يديه كثيرمن الفنانين والنقَّاد أمثال: (إحسان عنتابي، أسعد المدرِّس، وحيد مغاربة، عبد الرحمن مؤقت، صلاح الدين محمد، علي السرميني، سعود غنايمي، نصير شورى، محمود جلال، ناظم الجعفري.. إلخ).
وبالرغم من الظروف الصعبة التي أحاطت بجيل الروَّاد إلا أنَّ شجاعتهم في إثبات شخصيتهم كانت كبيرة جداً لما حملوه من عمق فكري وثقافي مستند إلى مغامراتهم التشكيلية الهائلة.
ومن المعروف عن إسماعيل حسني أنه حفظ الآلاف من أبيات الشعر حتى تكوَّنت لديه ثروة لغوية، وترجم الكثيرمن القصائد إلى لوحات فنية إبداعية فكان يحوِّل القصيدة إلى قصّة على لوحة ناطقة بالجمال.
ومن إنجازاته أنه أسَّس في دير الزور نادياً فنياً ثقافياً عام (١٩٤٣)، ثم نادي ابن خلدون، وقدَّم فيه مسرحيات كثيرة مثل مسرحية: (أبو عبد الله الصغير، سقوط غرناطة)، وعدة مسرحيات أخرى مع زملائه.
ويذكر عنه حالياً أحد طلابه القدامى أنه كان متعلقاً بأرضه متماهياً مع ذرات ترابها لدرجة أنه عندما كان يطلب من طلابه رسم منظرطبيعي يحرص أن يكون المشهد منتمياً إلى بيئتنا الريفية الحالية؛ ولا يكون متأثراً بالمشاهدة الغربية.. كذلك كان يرسم على السبورة قلعة حلب فكان طلابه شديدي الاندهاش من أستاذهم المحب للفن عندما كان مديراً لإعدادية الأمين بحلب،
حيث لعب دوراً ريادياً في تطويرالحياة الفنية في مطلع الستينات من القرن الماضي وذلك بعد تخرّجه في أكاديمية الفنون الجميلة في روما في العام 1956.
إذ عُيّن أول مديرلمركز الفنون التشكيلية بحلب في العام 1960.وكان له دور كبير في مسيرة الحركة التشكيلية الفنية داخل مدينة حلب .
ويعتبر بحق شيخ عشيرة الفنانين كما أطلق عليه الأديب «وليد إخلاصي» فهو لم يتوانَ عن متابعة عطائه في مجال التدريس لمادة الفنون وتاريخ الفن وعلم الجمال، ما أتاح الفرصة أمام جيل الفنانين الشباب للعيش في مناخات الفن وعوالمه الرحبة.
أما في روما فقد التقى بالفنان «فتحي محمد وأدهم إسماعيل»، وقامت فيما بينهم أواصر المودة والصداقة على دروب الفن والوطنية، ثم أنهى دراسته هناك بعد أن نال إجازة الفنون- قسم الزخرفة، وتبعها بدراسة أخرى في الإخراج المسرحي من أكاديمية المسرح الحر بروما، وفي العام 1956 عاد إلى «حلب» ليلتقي بالفنانين «غالب سالم، وهبي الحريري، فتحي محمد، فاتح المدرس» ليساهم معهم في إغناء الحياة الفنية في «حلب»، ويشارك في المعارض الجماعية التي نظمتها الدولة في كلٍّ من مدينتي حلب ودمشق.
وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي انتخب أول رئيس للمكتب الفرعي لنقابة الفنون الجميلة بحلب، ودرَّس حينها في جامعتها مادة علم الجمال وتاريخ الفن وأصول الرسم لطلاب كلية الهندسة المعمارية، كما ساهم في تعديل منهج الفنون وتاريخها، وكان في طليعة النقاد الذين كتبوا في الصحف السورية والعربية بأسلوب علمي واضح.
أدرك إسماعيل حسني حقي أنّ الفنون المحدثة في بلدنا تحتاج إلى فترة زمنية حتى يتسنى لها التغلغل إلى فهم الناس الذين مازالوا يتذوَّقونها بشكل محدود.. ومن هنا كان يُقصِّر في إنتاج اللوحة الفنية ويصرف معظم اهتمامه نحو إيجاد مناخ فني من خلال الاهتمام بالتربية الفنية وزرع القيم الجمالية في نفوس الناشئة الذين تكوَّن منهم الفنانون الجدد والجمهور الفني الجديد.
استند في معالجته للوحة إلى المفهوم الواقعي للتصوير، واعتبرالواقعية تجاوزاً للطبيعية، لذا لم يلتزم الواقعية بمفهومها الفوتوغرافي؛ وإنما بحث عن صيغة جديدة تستطيع حمل مشاعره إلى لوحته.
وبجانب هذا عالج موضوعاته المستمدة من الطبيعة برؤية انطباعية تظهر نزوعه نحو استخدام الألوان بلمسات انفعالية تضفي على الأشكال إحساساً مفعماً بالعاطفة الإنسانية الصادقة، التي تؤكد حضوره وخصوصيته في عدد من اللوحات العامرة بمشاهد من ريف «حلب» ودير الزور وجبال اللاذقية.
ومهما خطَّت حروفنا كلمات فلم تعطِ حق هذا الفنان المبدع والمربِّي الجليل.
العدد 1214 – 19 – 11 -2024