الملحق الثقافي:
عن الأدب الملتزم
يبدو الأدب العربي يتجه نحو العودة إلى مسار الحياة والاحتفاء بها بعد كان تهويمات لا معنى لها مع موجة الحداثة ومابعدها والانفضاض عن الأدب الملتزم حول ذلك كتب بو جمعة العوفي في مجلة العربي العدد 792 قائلاً :
كانت الإبداعات العربية، في مجالات الفكر والأدب والفنون، مرتبطة أشد الارتباط بقضايا جوهرية وأساسية تَهُمّ الحاجات المادية والنفسية الأساسية للأمة العربية وللإنسان العربي وحياته في كل مناحيها وجوانبها العمَلية والروحية على حد سواء، لذلك غالبًا ما كان المبدعون والمبتكرون العرب الحقيقيون، يضعون نُصب أعينهم مختلف هذه القضايا التي من أجلها يبدعون ويبتكرون، حتى أن المقولة أو النظرية الشائعة «الفن من أجل الفن»، حين ظهرت وانتشرت في أوربا مع بداية القرن التاسع عشر، ونادت بقطع الصلة بين الأدب والمجتمع، والقفز على قضايا الإنسان ومطالبه الملحة، لجعل الإبداع الأدبي مجرد متعة جمالية أو وسيلة ترف وتسلية ولا يحمل رسالة التغيير، قد تم تجاوزها بفضل ظهور الفلسفة الوجودية وغيرها من التيارات الفكرية، ولم يعد لها في عصرنا الحالي ما يبرر وجودها بالمرة.
أما بالنسبة لوطننا العربي، والذي نأمل فعلًا بأن نراه بحالة أفضل وبصورة أجمل، فقد أصبح من الضروري، بل من الواجب على كل إبداعاته أن تحمل في صلبها قضية أو قضايا تكون على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للأمة التي تتواجد وتنتج بداخلها هذه الإبداعات، بمعنى أن يأخذ المبدع على عاتقه، مهما تعددت مجالات إبداعه، طرح أهم قضايا أمته ووطنه العربي في مجمل عملية إنتاجه الفني والأدبي والفكري، وذلك في علاقة هذه القضايا بسيرورة تطور المجتمع، ومدى قدرة هذا المبدع على تبني قضايا عديدة مثل: القومية العربية، والعدالة، والديمقراطية، والحداثة، والتنوير، وعدم الانغلاق في الفكر والفن والدين والموقف السياسي.
إذ لا بد لهذا الإبداع من أن يكرس ويرسخ في المجتمع مفاهيم ومبادئ وسلوكات التحديث والتنوير والتسامح والاختلاف، وغيرها من قيم نبيلة تقود إلى الالتزام والعمق الفني والفكري، وذلك وفق تصور نقدي منفتح وحداثي، تكون غايته تسليط الضوء على مختلف هذه القضايا التي تثير انشغال المواطن العربي على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، داخل مقاربة نقدية وصريحة لهذه القضايا بشكل أساس، وبما تسعى إليه الأمة العربية تحديدًا في رهاناتها الكبرى وانخراطها الفعلي في الأفق الحداثي والديمقراطي المنشود.
هيمنة الميديا والوسائط الرقمية الجديدة
هكذا يكون المبدعون العرب، بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والأدبية والفنية، في مواجهة العديد من التحديات والمخاطر والانحرافات التي تواجه مجتمعاتهم في المرحلة الراهنة، مرحلة هيمنة الميديا والوسائط الرقمية الجديدة، بمحمولها العولمي والمدمر أحيانًا، وأنواع الفساد السياسي والأخلاقي، وأشكال المد الديني والإيديولوجي المتطرف والمعادي للحياة، ومدعوين أكثر من أي وقت مضى، إلى تغيير رؤاهم واستراتيجياتهم في الإبداع، وتضمين إبداعاتهم وإنتاجاتهم الفكرية والفنية والأدبية الكثير من الجدية والعمق والالتزام بالقضايا والمبادئ والأفكار التي من شأنها التصدي إلى هذه الأخطار المُحدقة بأمتهم وتاريخها ودينها ولغتها.
مع ما يقتضي الإبداع كذلك من نشر ثقافة التنوير والنقد البناء والغربلة، بما في ذلك تحطيم جدار الصمت والخوف واللامبالاة وأشكال الانغلاق الفكري والديني وتقديس الأيديولوجيات والأصوليات (كل الأصوليات) لدى المبدعين العرب، ما يحتم عليهم الابتعاد عن منطق المصلحة الذاتية والنفعية، كما يحتم على الحكومات والمجتمعات العربية تمكين هؤلاء المبدعين من كل الأدوات والوسائل التي تجعلهم قادرين على تجاوز سلبيات المرحلة، ليساهموا بشكل فعال وإيجابي في بناء مجتمع يسوده الفكر الحر والعدالة الاقتصادية والاجتماعية وحرية التعبير، وقيم الجمال والحياة والنزاهة والشفافية والديمقراطية والمغايرة والاختلاف، وما إلى ذلك من العناصر الضرورية لبناء مجتمع عصري وحداثي، قادر على إعادة تشييد هويته الحضارية والثقافية المتفردة والمتعددة في نفس الوقت، داخل الثقافة الكونية، وذلك بوسائله الخاصة، ومن داخل ثقافته الخاصة.
ثم إن المتفحص لمجالات وخرائط الإبداع العربي الآن، في المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقا بوسعه، ومن دون عناء كبير، أن يقف على ما آلت إليه أغلب الإنتاجات الفنية في هذه المجالات، حتى لا نقول «الإبداعات»، من إسفاف فني وتنافس واضح وملموس على الرداءة، بحيث أصبحت هذه الإنتاجات جوفاء ومبتذلة إلى حد القرف وبشكل لا يطاق، وتحول المبدعون العرب من صانعي الفرجة الهادفة والحقيقية وما يغذي الذوق والروح إلى صانعي المتع الرخيصة وصيادي الجوائز وبائعي الأوهام بالجملة.
في الزمن الجميل للإبداعات الراقية والهادفة، كانت السينما العربية، كغيرها من باقي الفنون، لها قيمتها ورمزيتها ورسالتها النبيلة وقضاياها الرئيسة، حين بدأت كعمل وطني في المقام الأول، بحيث لم يكن رواد هذه السينما يُعتبرون روادًا لصناعة وطنية فحسب، وإنما من المشاركين أيضًا في الحركة الوطنية في هذا البلد أو ذاك.
أما اليوم، فقد تراجعت السينما العربية كثيرًا، وحادتْ عن قضاياها وأهدافها الأساسية التي وُجِدَتْ من أجلها كصناعة وطنية وكمضمون قومي، توقفت هذه السينما في مجملها عن مواصلة ذلك الرهان الذي كان لروادها الأوائل في أن يجعلوا منها أداة للوعي وللتغيير، وتَحَكّم المنطق التجاري في المنتوج السينمائي العربي، ليصبح أغلب المخرجين والمؤلفين السينمائيين العرب خاضعين لمنطق السوق ورضا جمهور عربي أنهكته ثقافة الاستهلاك والترفيه والاستلاب وغياب الذوق الفني الرفيع.
أصبحت جل أعمال السينما العربية اليوم، كالعديد من الفنون الأخرى، تمرر خطابات وقيماً ثقافية وجمالية فارغة ومسمومة، هدفها هدم كل القيم النبيلة في الإنسان العربي، مع محاولة جعله مستلَبًا وخنوعًا ويائسًا ومتصالحًا بشكل فجّ مع ذاته ومع الكثير من القيم السلبية للغرب، ونستحضر، هنا تحديدًا، على سبيل المثال لا الحصر، نموذج السينما المصرية، باعتبارها كانت من السينمات الرائدة في العالم العربي مع مخرجين مصريين كبار مثل صلاح أبو سيف، وكمال الشيخ، وهنري بركات، ويوسف شاهين، وتوفيق صالح، وبعض المخرجين القلائل من «الموجة الطليعية الجديدة» التي سرعان ما تراجع دورها بعد أن كانت كاتجاه مضاد لما هو تجاري وسطحي ورديء في ثمانينيات القرن العشرين، وذلك عبر أفلام متنوعة الاتجاهات والأساليب، منها أفلام عاطف الطيب الواقعية مثل «سواق الأتوبيس»، وفيلم شادي عبد السلام التجريبي «المومياء»، وخصوصًا حين توقف القطاع العام عن دعم الإنتاج السينمائي منذ بداية السبعينيات.
إذ يلخص هذا المثال الكثير من مظاهر الأزمة والانحدار التي أصبحت تعرفها السينما العربية بشكل عام، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة طبعًا هنا وهناك، تخلت السينما العربية اليوم، ومنها السينما المصرية «الجديدة» عن قضاياها المركزية ومضامينها وقيمها الإنسانية النبيلة، فتحولت أفلامها إلى حفلات غنائية متواصلة، أبطالها وشخوصها الأساسيون: راقصة ومطرب وبلطجي.
تراجع الذوق الفني
أما حال الموسيقا العربية اليوم، وخصوصًا موجة الموسيقا الشبابية، فقد أصبحنا، في زمن تراجع الذوق الفني الأصيل، وانتشار الكثير من أشكال التردي الذي تعرفه هذه الأغنية بشكل غير مسبوق، سواء على مستوى الكلمة أو على مستوى اللحن والتوزيع والأداء، أصبحنا نشهد غياب الرسائل الهادفة في الإنتاج الموسيقي العربي، وغياب الشعراء والملحنين الموهوبين والجادين في الساحة الغنائية العربية، إذ دخلتْ «الإبداعات» الغنائية العربية اليوم، في أغلبها، زمن الموزعين الموسيقيين Les arrangeurs، عوض الملحنين، هؤلاء الذين كانوا يبثون في النص الشعري أو القصيدة الغنائية، سواء كان فصيحًا أو عاميًا، من أرواحهم المبدعة الكثير من الأحاسيس والتنويعات اللحنية والإيقاعية والانتقالات المقامية والموسيقية الساحرة، التي ما زالت حاضرة في وجدان وأذن المتلقي العربي، باستثناء بعض الأعمال الغنائية العربية القليلة التي أصبحت وستظل من الخالدات، إذ تستجيب عناصرها ومكوناتها إلى الشروط الفنية والجمالية الراقية والضرورية التي عرفتها الأغنية العربية في عصرها الذهبي.
هكذا ترسخ اليوم لدى المتلقي العربي المتذوق للفن بشكل عام إحساس أو شبه اعتقاد، وخصوصًا في مجالات الموسيقا والغناء والسينما، بأن هناك «زمناً فنياً جميلاً» قد ولى واختفى داخل هذه الفنون، وتم تعويضه بإنتاجات وأسماء لم تعد إنتاجاتها الفنية ترقى، بل تستجيب، إلى ذلك الذوق الفني الرفيع الذي كان سائدًا في الماضي، بفعل التغيرات المُهوِلة التي عرفتها مجلات وطبيعة الإنتاج الفني والتلقي على حد سواء، بحيث تم تسييد أشكال جديدة من الذوق أو التذوق الفني، تطبعه البساطة والاختزال وسرعة الاستهلاك، بل حتى السطحية والإسفاف والرداءة في غالب الأحيان.
أما قضية تعويض ذلك الجيل السابق من الفنانين العرب المميزين، فالأمر يظل نسبيًا في نظرنا، حتى أننا ربما لا يمكننا الحديث عن «تعويض» بالمعنى الحرفي للكلمة، على اعتبار أن جميع الإبداعات والإنجازات والتجارب الجديدة والمعاصرة والآنية، سواء كانت في الفن وغير الفن، لا تقوم بتعويض ما مضى، بل تشكل نوعًا من الامتداد والإضافة أو التطور والتجديد لما سبقها من تراكم، بغض النظر عن طبيعة وجودة ونوعية هذه الإبداعات والإنتاجات الجديدة والحالية.
وإذا ما أردنا طرح سؤال جوهري، أمام هذا الكم الهائل من التفاهة والرداءة المسيّدة الآن في الإبداع الفني العربي، عن المال الذي يسير نحوه هذا الإبداع؟ فيمكننا الجزم بأننا نسير نحو تسطيح المنتوج الفني (شكلًا ومحتوى) في الكثير من أنماطه وتمظهراته التعبيرية، يعني أننا نتجه نحو اختزال التعبيرات الفنية وتكييفها حسب منطق العولمة وقوانين الاستهلاك الرقمي التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة، حيث تقلصت أيضًا لدى المتلقي العربي هذه المساحة من الوقت والصبر لمشاهدة أو الاستماع إلى الأعمال الفنية في دقائق أو ثوان معدودة، وهذا ما أصبحنا نراه ونلمسه على منصات التواصل الاجتماعي: عليك أن تحكي قصتك في بضع ثوان فقط، هكذا غيرتِ التكنولوجيا والعوالم الرقمية عادات الإنسان وسلوكاته وأنماط عيشه وتلقيه كذلك لما يُبَث أساسًا على هذه المنصات.
وحتى إذا كان بعض الفنانين والنقاد العرب اليوم، غالبًا ما يلقون المسؤولية على عاتق الجمهور الذي يشجع الرداءة، والجمهور من جهته يتهم الفنان بعدم الرقي بإبداعاته لتجسيد هموم وقضايا المواطن العربي والأمة، فإن هذه المعادلة صعبة ومتعددة المقاربات كذلك، لا يمكن الجزم بشكل كلي وقاطع في نصيب أو حجم مسؤولية هذا الطرف أو ذاك فيما وصلنا إليه الآن من مستويات غير مسبوقة تتعلق برداءة المنتوج الفني، المسؤولية متاقسمة ومشتركة، والمعادلة ينبغي فهمها والنظر إليها من داخل هذا الوعي المطلوب في صناعة الإبداعات والمحتويات الفنية بشكل عام، ففي غياب معاهد ومؤسسات التكوين الفني، وإصرار التلفزيونات العربية ومنصات البث الرقمي على تقديم الإنتاجات والمحتويات الفنية الرديئة، لن نتوقع الوصول إلى حلول ممكنة لهذه المعضلة في المدى القريب، وستظل نفس الاتهامات قائمة ومتبادلة بين من ينتج الفن ومن يستهلكه.
العدد 1216 –3- 12 -2024