حي جوبر وبوابة الغوطة والمخطط “106”.. شواهد السوريين على نظام إرهابي دمر بيوتهم وانتزع ملكياتهم وهجّرهم
الثورة – تحقيق ثورة زينية:
اليوم أتعرض في مقالتي هذه لما كابده أهالي وسكان حي جوبر من ظلم وسرقة وتجريد لممتلكاتهم وعقاراتهم تحت مسميات قانونية مختلفة وبغطاء مدبج بمراسيم جمهورية من أعلى سلطة في النظام البائد.
حي جوبر، أحد أحياء دمشق وبوابة الغوطة الشرقية، وكان الحي ساحة للمظاهرات الكبرى التي نظمها أهالي الريف الدمشقي في مطلع الثورة السورية، ثم تحول إلى جبهة قتال مشتعلة، وحوّله النظام المجرم إلى مسرح للهجمات العنيفة العشوائية والاشتباكات والحصار.
مدينة أشباح
وبعد سقوط نظام الأسد المخلوع في الثامن من كانون الأول المنصرم بدأ المواطنون بالعودة رويداً رويداً إلى حي جوبر الدمشقي لتفقد أطلال ما بقي من الحي وذكرياتهم فيه، وقد تحول إلى مدينة أشباح نتيجة الدمار الهائل الذي لحق بالحي وبناه التحتية.
يقع حي جوبر شمال شرقي دمشق، وهو من أقرب الأحياء إلى ساحة العباسيين وملاصق لمنطقة الزبلطاني القريبة من أحياء باب توما والقصاع وتبلغ مساحته نحو كيلومترين وثمانمئة وستين متراً.
وكان الحي سوقاً حيوياً لكثرة المحال التجارية فيه وتنوعها، واشتهر بصناعات حرفية عديدة منها النقش على النحاس والنجارة، ومعامل تلبيس الذهب والفضة، ومعامل الألبسة التي كان أشهرها محال تصنيع العباءات والمعاطف النسائية الطويلة ومن أشهر أسواقها “سوق المانطو”.
مخطط تنظيمي جديد
وطبقاً لإحصائية رسمية صدرت عام 2008، فإن عدد سكان حي جوبر بلغ آنذاك حوالى ثلاثمئة ألف نسمة، ولكن بعد اندلاع الثورة السورية 2011 قتل أكثر من ألف شخص في الحي نتيجة المعارك بين فصائل الثورة وقوات جيش النظام البائد، واضطر الآلاف من أهله للمغادرة، ومنعوا من العودة نهائياً عبر صدور مخطط تنظيمي جديد للحي من قبل سلطات محافظة دمشق في حكومة النظام البائد بتاريخ 28 حزيران 2022 يحمل الرقم /106/ والهادف إلى تعديل الصفة العمرانية للمناطق العقارية التالية (جوبر والقابون وحي مسجد أقصاب وعربين وزملكا وعين ترما).
هذا المخطط التنظيمي الجديد لحي جوبر الصادر آنذاك، قضى على أي أمل لسكان الحي بالعودة إلى منازلهم، بعد سنوات طويلة من النزوح ومن كان يملك منزلاً في جوبر سيأخذ أسهماً بمقاسم جديدة، وحجة سلطات النظام البائد آنذاك أن الوضع الإنشائي لمنطقة جوبر لا يسمح لسكانها بالعودة.
لا عودة بعد التنظيم
إن تغيير الصورة العمرانية للمنطقة، تعني استحالة عودة المالكين الأصليين إليها، لأن توزيع الملكيات وفق أسهم يجعل مالكي العقارات أمام ثلاثة خيارات، التخصص بالمقاسم، أو الإسهام في تأسيس شركة مساهمة وفق قانون الشركات، أو خيار البيع في المزاد العلني، ولكون أغلب الملكيات في المنطقة صغيرة لا تسمح لهم بالتخصص، ولصعوبة الإسهام في تأسيس شركة، سوف يلجأ أغلب الملاك إلى البيع بالمزاد العلني، وهو ما سيحصل غالباً لتعذر تنفيذ الخيارات السابقة وعدم القدرة على العودة للسكن في هذه المنطقة.
الشيطان في التفاصيل
لقد سعى النظام البائد إلى إطلاق إعادة إعمار العاصمة تحت مسمى “دمشق الكبرى”، بالتزامن مع توحيد كود البناء، لكن على حساب الملكية العقارية لآلاف السكان، وحسب ما هو معلوم فإن المخططات التنظيمية صحيحة ظاهرياً كعملية تنظيم للعاصمة، لكنها تخفي تفاصيل شيطانية من خلال عدم السماح للأهالي بالعودة، وعدم تعويضهم بشكل عادل، والاستيلاء الرسمي على هذه المناطق عبر التلاعب بالقوانين.
ففي تنظيم جوبر العمراني كانت شركة “دمشق شام القابضة”، التي تأسست عام 2016 تشرف على مشروع تطوير المنطقة عقارياً وتم نقل ملكية العقارات التي تعود للمحافظة في هذا التنظيم العمراني إلى الشركة، ليتسنى لها الاستثمار فيها بدلاً من بيع عقاراتها في المزاد العلني، والذي لا يتوقف عند حي جوبر فقط، بل يتعداه إلى مدخل القابون، وأجزاء من دوما وحرستا.
ولكن الخطير في الأمر أن الشركة كانت تقتنص فرصة كون معظم المناطق زراعية لا توجد لأصحابها سندات تمليك، وهي ثغرة قانونية تسعى من خلالها إلى الاستحواذ على أراضي وعقارات المنطقة المهدمة بشكل كلي تقريباً، ثم طرحها للمستثمر.
ضبابية وغموض
لقد عملت سلطات النظام البائد على خلق حالة من الضبابية والغموض عند تنظيم المناطق المراد الاستيلاء عليها، مستغلة حالة ازدواجية التشريعات العقارية المطبقة في حالات تنظيم المدن السورية المختلفة، وذلك من خلال تطبيق قوانين وتشريعات مختلفة على عدّة مناطق تريد السيطرة عليها، استناداً إلى عدّة قوانين عمرانية مختلفة لتنظيم المناطق المنكوبة، منها (المرسوم رقم 66 لعام 2012 والقانون رقم 10 لعام 2018 والمرسوم رقم 5 لعام 1982).
وبعد الغوص في القوانين السابقة الممهدة لتطوير مناطق العاصمة نجد أن بداية الخلل تأتي منذ إصدار المرسوم التشريعي رقم 5 لعام 1982، والمعدل بالقانون 41 لعام 2002، والذي يعد أساس التخطيط العمراني للمنطقة.
نزع الملكيات والحقوق العقارية
إن تنظيم منطقة جوبر وفق المرسوم 5 لعام 1982 محاولة جديدة قديمة للاستيلاء على ممتلكات المواطنين، حيث إنّ معظم سكان المناطق التي شملها المخطط التنظيمي رقم 106 قد أصبحوا في عداد النازحين داخلياً أو اللاجئين، كما وجدت إشكاليات قانونية لتطبيق المرسوم رقم 5 لعام 1982، في ظل هجرة ونزوح غالبية سكان حي جوبر، ونسبة الدمار التي تجاوزت 80% من الحي، ولعل أولى هذه الإشكالات، وسيلة التبليغ لأصحاب الأملاك، والتي تتمثل بطريق التبليغ الشخصي، أو بموجب بيان ينشر في صحيفتين محليتين، وفي ظل تهجير معظم سكان الحي، يستحيل معرفتهم بصدور مثل هذه المخططات، يضاف إلى حزمة الإشكالات، المدة الممنوحة لإثبات الملكية والاعتراض واشتراط الموافقة الأمنية لإتمام الوكالة العقارية، والتي تصطدم بواقع قانوني معقد يواجه اللاجئين والنازحين ووجود معتقلين ومختفين قسراً من مالكي وسكان هذه المنطقة، تقود إلى استحالة شبه أكيدة لإثبات ملكياتهم ضمن هذه المدة.
استغلال القوانين
لقد قامت محافظة دمشق آنذاك باستغلال التفويض الممنوح لها في المرسوم رقم 5 لعام 1982، والمعدل بالقانون 41 لعام 2002، من خلال تحديد المناطق التي تراها بحاجة إلى إعادة إعمار أو توسعة بمساحات معينة، وذلك بناء إمّا على زيادة في عدد السكان أو نتيجة الأضرار التي لحقت بالمناطق المتضررة من الحرب، ومنحها صلاحية وضع مخططات تنظيمية لتلك المناطق على أساس المساحة المقترحة.
كما أن سلطات النظام البائد استغلت عدم وجود مدة زمنية محددة لإصدار المخططات التنظيمية، ما يمنحها فعلياً، سلطة واسعة في اختيار الزمان المناسب والأماكن التي تريد تنظيمها دون الأخذ بالحسبان أيّ من مصالح أصحاب الممتلكات خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار إن غالبية مالكي العقارات الخاصة في تلك المناطق المنكوبة لا يقيمون فيها.
إشكاليات إثبات الملكيات
ولعل إشكاليات إثبات الملكية هي المعضلة الأكبر والأصعب في اعتماد القانون رقم 5 لعام 1982 لإصدار المخططات التنظيمية، في وسيلة التبليغ لأصحاب الأملاك، فقد نصّت المادة 5 (فقرة ب) من القانون على أنّ التبليغ يتمّ إمّا شخصياً أو عبر نشر قرار التنظيم في صحيفتين محليتين، علماً أن أغلب سكان منطقة جوبر في المخطط التنظيمي رقم 106 أصبحوا في عداد اللاجئين أو النازحين الداخليين، وهو ما يعني صعوبة أو أحياناً استحالة معرفة السكان الأصليين بإعلانات المخططات التنظيمية من أجل الاعتراض عليها أو إثبات ملكياتهم، كما أن المدّة الزمنية القصيرة الممنوحة للناس (شهر واحد فقط) في حالة الاعتراض على قرارات المخططات التنظيمية، من تاريخ إعلان المخطط، تجعل من الصعوبة بمكان إثبات الملكية في تلك المدّة كما أن الكثير من سكان حي جوبر على قوائم المطلوبين لسلطات النظام البائد الأمنية بسبب آرائهم أو مواقفهم السياسية، وهذا سيمنعهم من المجازفة بطبيعة الحال إلى المثول والاعتراض.
الموافقات الأمنية
وتبقى معضلة الحصول على الموافقات الأمنية لإجراء وكالات، عقبة إضافية أمام محاولات إثبات الملكية بعد العام 2011، فأغلب الموافقات الأمنية للوكالات تحتاج لمدة زمنية تصل لستة أشهر للحصول عليها، ذلك في حال كان الشخص المعني غير ملاحق قضائياً أو أمنياً، أمّا في حال كان هناك إشكالات أمنية أو حكم قضائي غيابي بحق أصحاب الملكيات، فمن البديهي أن تأتي الموافقة الأمنية بالرفض وبالتالي حرمان الناس من حقها في الاعتراض أو إثبات الملكية.
حتى لو حصل المالك على الموافقة الأمنية للتوكيل، فالمدّة التي ستستغرقها عملية الحصول على الموافقة، مع الأخذ بعين الاعتبار إجراءاتها الروتينية في استحصالها، سيجعل من تلك المدة أطول من مدة الاعتراض المحددة بـ30 يوماً.
وهكذا كانت توضع العراقيل للحيلولة دون عودة الممتلكات إلى أصحابها الحقيقيين.
إعادة الهندسة الاجتماعية
إنّ طرق تنظيم المناطق العقارية كانت جزءاً من سياسة أوسع تهدف إلى إعادة الهندسة الاجتماعية في عدّة مناطق تلك المناطق التي عرفت بمعارضتها العسكرية والسياسية للنظام المخلوع في محيط العاصمة دمشق على مدار السنوات الماضية.
وهو ما دفع الحكومة إلى إصدار عدّة مراسيم وقوانين ابتداءً من المرسوم رقم 66 لعام 2012، ولاحقاً القانون رقم 10 لعام 2018، وليس انتهاء بالمرسوم التشريعي رقم (237)، والذي نص على إحداث مناطق تنظيمية في مدخل دمشق الشمالي (القابون وحرستا)، مستنداً إلى المخطط التنظيمي التفصيلي الذي حمل الرقم (104).
تبعها إصدار مخططات تنظيمية مشابهة تخصّ مناطق الحجر الأسود والسبينة وجرمانا ويلدا، وفق المرسوم رقم 5 لعام 1982، والذي يُعتبر حلقة أخرى من حلقات نزع الملكيات وتجريدهم من حقوقهم.
إن سبب لجوء سلطات النظام البائد آنذاك إلى إصدار عدّة مراسيم وقوانين يعود إلى رغبتها في عدم تأليب الرأي العام السوري والدولي عليها، خاصة إذا أخدنا بالاعتبار الضجّة التي رافقت إصدار القانون رقم 10 لعام 2018، حيث لفت القانون رقم 10 الأنظار محلياً ودولياً، إلى المشاكل العقارية التي تعاني منها سوريا وإلى الانتهاكات التي تطال حقوق الملكيات العقارية فيها، طوال العقود السابقة، والتي ازدادت وتيرتها خلال سنوات الحرب المدمرة، رغم أنّ نتيجة جميع تلك القوانين على أصحاب العقارات هي نفسها (نزع ملكية تحت مسمّيات مختلفة).
واليوم وبعد أن مضى عهد الاستيلاء على الحقوق والممتلكات من قبل سلطات النظام المخلوع، يأمل أهالي حي جوبر بأن يعود الحق إلى نصابه وتعود ممتلكاتهم إليهم، كما أن آمالهم معقودة على انطلاق مرحلة إعادة الإعمار لكي يتمكنوا من العيش مرة أخرى في حيهم الذي يحبون.
#صحيفة_الثورة