شهادة من قلب المأساة.. ابن حماة الإعلامي في “صحيفتنا” حازم شعار لـ”الثورة”: سرايا رفعت الأسد أعدمت 5 من أخوالي.. وتصفيات الأطفال تمت أمام أعين عائلاتهم
الثورة – أحمد حمادة:
الصحفي حازم شعار، زميلنا في صحيفة “الثورة”، وقبل ذلك في صحيفة “الفداء” بحماة، والذي غادر سوريا في وقت مبكر من اندلاع الثورة السورية، وانشق عن النظام البائد نهاية عام 2012، رافضاً إرهابه وقمعه للمتظاهرين السلميين وجرائمه بحق شعبنا، يروي لنا اليوم شهادته من قلب تلك المأساة، التي ألمت بمدينته وأهله، حينما كان طفلاً، يقص علينا تفاصيل ما جرى في بيت جده وأهله، وشوارع مدينته، وأحيائها، كيف رسخت صور تلك المجازر المروعة بذهنه وسنوات عمره لا تتجاوز عدد أصابع يديه، كيف بكوا، كيف جاعوا، كيف أمضوا تلك الأيام المريرة؟.
حازم كان على مدار السنوات التي عملنا خلالها سوية بالصحيفة، بعد أن نقل عمله من “الفداء” إلى دمشق هو وزوجته الزميلة مؤمنة نمرة، واستقر في القسم الاقتصادي في صحيفة “الثورة”، “والذي ترأسه منذ عام 2006 وحتى انشقاقه”، كان يهمس لنا – نحن المقربين منه من زملائه – بما شاهده في تلك الأيام المظلمة، الحاقدة، والمنفلت أصحابها من كل ضمير وأخلاق وإنسانية، كنا نسأله ونحن نجلس في “كافتيريا” الجريدة بالطابق الثامن: كيف نجوتم؟ كيف عشتم؟ كان يحدثنا دوماً بصوت خافت، عن مشاهداته، كان يهمس لنا طيلة عقد من الزمن بما شاهده من مناظر مروعة قام بها السفاحون، وعندما يقترب أحد “وشاة التقارير” منا يغير حازم بوصلة الحديث.
اليوم حازم يروي مشاهدته لنا، ولوسائل الإعلام بصوت مرتفع، دون خوف أو وجل، فنظام الإرهاب سقط، وحواجز الخوف انقلعت إلى غير رجعة، ولم نعد بحاجة للصوت الخافت، يقول: في صباح الثاني من شباط “فبراير” 1982، استيقظنا في مدينة حماة على أصوات الرصاص، لتبدأ واحدة من أبشع المجازر في تاريخ البلاد الحديث، استمرت المجزرة حتى 27 فبراير، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 47,500 شخص، وفقاً لمعلومات استخباراتية من نظام الأسد البائد، اطلعت عليها لاحقت خلال فترة دراستي في تسعينيات القرن الماضي، حيث كان والد صديقي في الجامعة موظفاً مدنياً في أحد أفرع المخابرات، ولكنه في داخله كان معارضاً لنظام الأسد، وعندما اطمأن إليّ بعد عامين من معرفتي بابنه، أطلعني على معلومات سرية تتعلق بالمجزرة.
يتابع حازم: كانت ليلة الثلاثاء، في الأسبوع الأول من العطلة المدرسية “الانتصافية”، حيث كنت أنام في غرفة “الصالون” مع بعض أخوتي بعد الاستمتاع بمشاهدة التلفزيون حتى وقت متأخر من الليل، هروباً من النظام المنضبط الذي كان مفروضاً علينا خلال فترة المدرسة، لكن متعتنا لم تتحقق بكامل مدة العطلة (أسبوعان) ليوقظنا في منتصف تلك الليلة إطلاق نار لم أكن أدرك أن وراءه كارثة كبرى ستحل بمدينتي وأهلي ، بل اعتقدت أنها ليلة كغيرها من الليالي سيئة الذكر التي كنا نشهدها خلال السنتين أو الثلاث التي سبقت المجزرة، وكان عمري وقتها 10 أعوام و10 أشهر، وكانت أقصى توقعاتي مداهمة “وكر لتنظيم الإخوان المسلمين” كما كان النظام يطلق عليها، وكما كانت تروج مخابرات النظام، لتستمر الحياة في اليوم التالي مع بعض التوتر والانتشار الأمني الكثيف في المدينة.
لكن مع استمرار إطلاق النار وبكثافة شديدة، حتى الفجر، ذهبت توقعاتي إلى أبعد من مداهمة وكر، وقفز إلى ذهني سيناريو الأحداث التي كانت تقع قبل هذا التاريخ، حيث تختزن ذاكرتي معركتين قصيرتين لمحاصرة عناصر من التنظيم إياه، واحدة معروفة بين أوساط الحمويين بأحداث الثمانية أيام، بينما المعركة الثانية لا أذكر ما هي التسمية التي أطلقت عليها، لكن أعتقد أنها استمرت أسبوعاً حيث استخدمت فيها أسلحة خفيفة، وعلى إثر ذلك قلت في نفسي “راحت علينا العطلة”.
مع الساعات الأولى من النهار، بدأنا ندرك حجم الكارثة. الدبابات تجوب الشوارع، جنود الأسد يقتحمون البيوت، والأصوات القادمة من الأزقة كانت مزيجاً من صرخات الألم وأصوات الرصاص التي لا تتوقف. في معظم الأحياء، كانت القوات الخاصة التابعة للنظام تقتاد رجالاً وشباباً إلى الشوارع وتعدمهم جماعياً أمام أعين عائلاتهم
يتابع: إن حي جنوب الملعب شهد واحدة من أبشع الفظائع من قبل ما كانت تسمى سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، حيث تمت تصفية جميع رجال الحي، الذين بلغ عددهم نحو خمسة آلاف شخص. لم يكن القتل هو المشهد الوحيد للرعب، بل امتد إلى أسر كاملة تم القضاء عليها. في عائلتي، قتل خمسة من أخوالي في الحي المذكور، إلى جانب ابن خالي البالغ من العمر 14 عاماً. عندما وصلت الأخبار إلى والدتي الحامل بعد انتهاء الحرب وفك حظر التجول، أصيبت بانهيار، وقمنا بنقلها إلى المستشفى الوطني حيث كانت الجثث مكدسة عند المدخل، مما صعب علينا تجاوزها للوصول إلى الداخل. وضعت طفلها قبل موعد ولادته، لكنه توفي بعد أسبوع نتيجة انسداد أمعائه، دفناه دون أن يتسنى لنا تسجيله في دائرة النفوس.
يقول حازم: لم يكن الاعتقال أقل وحشية من القتل المباشر. في الأسبوع الأول من المجزرة، تم اعتقال والدي مع شقيقيَّ، حيث اعتقدنا أنهم أعدموا كما حدث للآلاف. لكن اعتقالهم من قبل القوات النظامية كان “حسن حظ” غير متوقع، فقد نجوا من حملة الإعدامات العشوائية التي نفذتها سرايا الدفاع في اليوم التالي في حيّنا والأحياء المجاورة كانت هذه القوات تنفذ عمليات تصفية فورية لأي رجل أو شاب تجاوز الرابعة عشرة من العمر.
لم تكن المجزرة حدثاً مفاجئاً، فقد سبقتها أحداث عنف واعتقالات متكررة بين عامي 1979 و1981، كما ذكرت، حيث يستهدف النظام أي تحرك معارض بالقمع الشديد وفي الواقعة التي عُرفت بـ”حرب السبعة أيام” عام 1980، أتذكر كيف فقدت أحد زملائي في الصف الثالث الابتدائي، إسماعيل الجعمور، حين فتح جندي النار عليه بعد أن فتح باب داره قليلًا خلال حظر التجول دون علم أهله.
مع استمرار القصف والمداهمات، كنا محاصرين في منزلنا الواقع في “شارع 8 آذار”. كنا نراقب من النافذة ما يجري في الشارع، حيث شاهدت بعيني قوات النظام وهي تقتاد الرجال والشباب من حي “جورة حوا وتل الدباغة”، قبل أن يتم رميهم في شاحنات عسكرية من نوع زيل وكأنهم “خراف” تُساق إلى الذبح. في مشهد أكثر رعباً، رأيت أحد الرجال المسنين تُحرق لحيته قبل أن يُلقى في السيارة.
بعد انتهاء المجزرة، كانت المدينة قد تحولت إلى أطلال، فقد هدمت أحياء بأكملها، وامتلأت الشوارع بالجثث. وغادر الكثير من الناجين المدينة ومنهم أسرتي الصغيرة وصرنا من سكان الشام، وأصبحت حماة مدينة يلفها الصمت. لكن الجرح لم يندمل. عاش الحمويون سنوات طويلة وهم يواجهون تهمة “الإخونجية” التي استخدمها النظام لإقصائهم.
رغم مرور 43 عامًا على المجزرة، لا تزال آثارها حاضرة في ذاكرتي وذاكرة أهلي. لم يكن ما حدث مجرد مجزرة، بل كان درساً فرضه نظام حافظ الأسد علينا جميعاً، لمنع أي محاولة للتمرد في المستقبل. لكن رغم القمع والتعتيم، بقيت شهاداتنا حية، تنقل تفاصيل ما جرى، لتظل حماة شاهداً على وحشية نظام لم يعرف حدوداً في قمعه، وهو ما شاهده السوريون جميعاً بعد 30 عاماً عندما انتفضوا وثاروا على وريثه المخلوع بشار الأسد.
ويختتم حازم حديثه: بالعودة إلى المعلومات الاستخباراتية التي اطلعت عليها، اتضح لي أن تلك المجازر كانت تهدف إلى أن تكون درسًا للسوريين عامة، وأهل حماة خاصة. فخلال المجزرة وبعدها، كان يمنع على الناس أن يسيروا عابسين بحجة أنهم غير راضين عن النظام وأنهم (يوهنون عزيمة الأمة). وإذا شاهد عناصر الأمن أحد الشباب وهو يمشي بثقة، كان يعتقل بحجة التحدي والسخرية من الدولة”.
#صحيفة_الثورة