الثورة – ديب علي حسن:
شكلت تجربة المبدعة السورية المغتربة آمنة بدر الدين الحلبي محطة مهمة في تكامل الفنون الإبداعية ما بين الفن البصري “اللوحة والشعر وكتابة المقال والنقد والدراسة الجمالية.
وقد غدت ذات ملامح تدل على إنجازها دون توقيعها في الغربة، حيث الوطن في نياط قلبها وعلى مجرى دمها كل شيء، ومنه الجسد، لكن الروح تواقة فوارة فيه.
حول منجزها الإبداعي كانت لنا هذا الوقفة.
في نصك الشعري ثمة لوحات تتراقص بألوان الحياة، هل لدراستك الفنون الجميلة أثر على ذلك؟ وما العلاقة بين الشعر واللوحة؟
– من وراء جدران الزمن المر سكنت على جسد ذاكرتي الفنون الجميلة بكل أنواعها، وعرشت على حوافها شذرات من حروف وجدانية كلما تعالى الأنين في داخلي، صغتها على لوحة تشكيلية تعالى ضجيجها بالخط واللون، وتناثر من أناملي ما تبقى من كلمات كي أدونها قصيدة شعرية عشتها منذ نعومة أحلامي، وكبرت معي إلى أن تحقق بدخولي كلية الفنون الجميلة التي أرست معايير الحرف وكيف أصيغه بتؤدة من خلال اللون الأحمر الذي عشعش في بصري وبصيرتي منذ فتحت عيني على الدنيا لأعشق ذاك اللون بكل ماهيته فرحًا وحزنًا، حياة وموتاً، واقترن اللون بالحرف ليقودني إلى طريق الآلام والآمال.
ونظراً لتلك العلاقة المتماهية بين الخط واللون تنتظم اللوحة الشعرية من دون سابق إنذار، وتتماهى مع اللوحة التشكيلية بما تحمله من جمال أخاذ فتندلق الكلمات بجزالة على لوحة بيضاء من محبرتي، كما تندلق الألوان على باليت الرسم فيتشكل صنوان جميل كعقد لؤلؤي مرصوف، وإن تلونتِ الكلمات بآلام الوطن الذي حملته بين أحشائي خمسة وثلاثين عاماً ونيف من غربة صخرية، جدرانها هشة آيلة للحت على مفاصل الحياة.
الغربة جرحٌ غائرٌ في إبداعك الفني، ماذا عنها؟
– مهما تكلمت عن الغربة لن أستوفي صنع الكلمات، بين من التقيت بخصالهم الجميلة وأخلاقهم الكريمة واحتضانهم الأخوي، وعطائهم اللا محدود من تلك الأرض الطيبة التي حباها الله بالأمن والأمان ورزقها من الثمرات، وأكرمها بتسابيح الإنسانية لله عز وجل، والتي كانت تهز دقائق الأثير بين الفينة والأخرى معلنة بدء الصلاة على الأرض المقدسة، والجموع ساجدة للواحد الأحد، والقلم يجري بين أناملي ليبارك ما يحمله بصري فأتحد مع الورق، وأترجم ما رصدته بصيرتي من حب كبير واحتضان أكبر من بلد عظيم “المملكة العربية السعودية”.
وكلما أزحت كابوس البعد عن الوطن تمطى الحزن بصلبه وفرد إعجازاً وناء بكلكل، ورسم خطوطاً بيانية في ذاكرة الزمن المر، أنسدل على لوحاتي وشرب من كلماتي، وحاك قصيدة شعر مرسومة على ورق الحور والصفصاف التي ظلت متمددة على جسد ذاكرتي، كما استوطنت على ضفاف عاصي البلدان.
وكلما هاجت الذكرى للوطن أرى الشوق مستحكما يخلع ثوب المادة، وينثر أبجدية الحنين في فضاء واسع الأرجاء، لتترقرق الكلمات وتنساب مع ساقية عذبة تخط سطوراً من نور على ورقة من نور لوطن من نور.
حماة مسقط رأسك كيف تصفينها؟
– أنا ابنة مملكة آرام “حماة” أتنفس عبق العاصي من أنين نواعيرها التي أرعبت المجرمين والظالمين، وقاومت حقدهم الدفين على مدى سنين من ظلمهم، أنا ابنة المدينة الأثرية القابعة بحضن وهدة منخفضة مازال يفوح عبق الشهادة من نهرها، الذي شق المدينة إلى نصفين كي تسرح على جانبيه أشجار الحور والصفصاف، أنا ابنة “أماتي” التي لو وزعت حبا على العالم لامتلأ العالم بالحب.
“حماة” هي الروح الممتدة على مدى سنين من عمري الفني والتي سرحت حروف اسمها من بين همس كلماتي، على الروح وتمددت على الجسد لتحكي رواية الأبطال في ساحة الوغى، سقت دماؤهم أرض “حماة”، وقد أُدخلت المدينة في القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالمي لليونسكو.
هل أخذك العمل الصحفي من الشعر والفن؟
– عالم الصحافة الذي ابتدأ مشواره منذ كنت على مقاعد الدراسة، وما إن شققت الباب حتى اعتقلني في مجاهله، لكن لم يخطفني كلياً من الفن والشعر، بل أضاف إلى ثقافتي الفنية الكثير في العالم العربي، ووضعني أمام عالم مميز لأكون الباحثة والمنقبة والفنانة والطبيبة والمصوّرة والمعلّمة وسيدة الأعمال.
فالعمل الصحفي له نكهة مميزة، سحرني وأدخلني في قمقم خباياه، وزرع روحي بين دهاليزه، وجعلني أغوص بين لججه لأكشف ما يدور في كواليس “بلاط صاحبة الجلالة” وإلقاء الضوء على حياة المثقفين والمثقفات في العالم العربي، وأطالع الجمال المرصوف من ألوانهم وأدرس الكتلة في منحوتاتهم وتشكيلات أيامهم، كوني ابنة الفن العاشقة للجمال في دقائق الأثير، أما الدخول إلى عالم المال والأعمال لتقليب أوراق رجال الأعمال له نكهة خاصة ومميزة حين يرصف الحوار تقنيات هذا المجال بدقة متناهية ويفكك كل فاصلة من فواصله، والاطلاع على كل ما هو جديد في هذا العالم.
تتابعين المشهد الإبداعي العربي، ماذا تقولين عنه؟
– إذا كانت “الثورة” تقصد المشهد الإبداعي “الفيسبوكي” فأرثي لحال اللغة العربية التي نُصبَ فيها الفاعل، وجُرّ المفعول، وضاعت أحرف الجر بين الضم والفتح، إضافة لانتشار الشعراء والشاعرات مثل النار في الهشيم كما يطلقون على أنفسهم لأكتشف عند الأغلبية العظمى أن ما يُكتب ما هو إلا صف حروف وتعبئة مسطحات، وطباعة دواوين، والحصول على شهادات.
لكن في وسط الزحام كله أستطيع أن أتلمس المشهد الإبداعي لبعض الذين قدموا ومازالوا يقدمون الكلمة المدروسة والحرف المصاغ بماء الذهب.
وأقرأ الحالة الإبداعية بتؤدة حتى أغوص بين ثناياها مطالعة الشعر الوطني الجميل، والشعر الوجداني، وشعر الغزل المحموم بالشوق والحنين المقرون بالجمال.
تتصدر الشاعرات الساحة فمن تتابعين وما رأيك بالمشهد؟
– ما زلت أعيش مع نزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم وغادة السمان ونازك الملائكة وأحمد شوقي وعمر أبو ريشة نظرا لاغترابي في عمر صغير فظلت روحي متعلقة بذاك الأدب الجميل، والشعر الذي خطفني عمرا بحاله.
لكن هذا لا يمنع من متابعتي للروائية الرائعة لينا هويان الحسن في “سلطانات الرمل” والقصصية إيمان الدرع التي كتبت “حارة الطوافرة”.
ولبعض الشاعرات أمثال أنيسة عبود، ورولا حسن، ومنار شلهوب، تعكس حالة شعرية أنيقة ورائعة، وتعزز تجربتهن كنبع للإلهام والعطاء التي تُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تطبع في دور نشر محلية وعربية، تجعل أمامي فسحة مضيئة للحياة أن سوريا بخير ومازالت الثقافة تعرش على قلوب الشعراء والأدباء.
وباستطاعتنا اقتفاء ذاك الشعر الذي يترك بصمة في الروح الإنسانية من خلال تفرده وتنوعه على الحياة كينبوع للإلهام.
#صحيفة_الثورة