الثورة – تحقيق هلال عون:
مع بدء سوريا فصلاً جديداً في تاريخها الاقتصادي، تتجه الأنظار نحو التحول إلى اقتصاد سوق تنافسي حر، حيث تتغير قواعد اللعبة الاقتصادية والاجتماعية بشكل جذري، هذا التحول لا يعني فقط تحرير الأسواق وفتح الأبواب للاستثمار، بل ينعكس أيضاً على حياة المواطنين بشكل مباشر، مما يخلق تحديات جديدة وفرصاً غير مسبوقة.
تحولات اقتصادية
بعد أكثر من عقد من الأزمات والتحديات الاقتصادية، تقف سوريا أمام منعطف حاسم، فالانتقال إلى اقتصاد السوق الحر يعني أن الحكومة لم تعد المتحكم الوحيد في السوق، بل أصبح للقطاع الخاص والمستثمرين الدور الأساس في تحريك عجلة الاقتصاد.
ووفقاً لتقديرات حديثة، فإن نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت إلى نحو 70%، مقارنةً بما كانت عليه سابقاً عندما كان الاقتصاد يعتمد بشكل أساسي على الدولة.
آثار اجتماعية
بخصوص الأثر الاجتماعي، في ظل الواقع الاقتصادي الجديد، يرى الدكتور عبد المعين مفتاح- الخبير والاستشاري في الإدارة والاقتصاد وإعادة هيكلة الشركات، والمختص بالإدارة العامة والتنفيذية، يرى أن هذه التغيرات تفرض على المجتمع السوري تبني عقلية جديدة في الإنتاج والاستهلاك، فلم يعد انتظار الوظائف الحكومية هو الخيار الوحيد، بل أصبح الابتكار والاستثمار الشخصي أمراً حتمياً.
فرص العمل والتنمية البشرية
إحدى القضايا الأساسية في هذا التحول الاقتصادي- برأي مفتاح، هي خلق فرص عمل حقيقية، إذ تشير الإحصائيات إلى أن معدل البطالة في سوريا لا يزال يتجاوز 30%، مما يجعل من الضروري تحفيز ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة كجزء من الحل.هذه المشاريع تساهم بنسبة كبيرة في الاقتصاد، حيث تمثل أكثر من 50% من إجمالي فرص العمل الجديدة في الأسواق النامية.تطوير المهاراترجل الأعمال الدكتور ياسر أكريم، يؤكد على أهمية تطوير المهارات لمواكبة متطلبات الاقتصاد الجديد، ويقول:”التعليم والتدريب المهني هما المفتاح الحقيقي لخلق فرص مستدامة، لدينا جيل كامل بحاجة إلى إعادة تأهيل في مجالات التكنولوجيا، الإدارة، والحرف الماهرة.”على سبيل المثال
تم إطلاق مشروع تدريبي في دمشق يهدف إلى تأهيل الشباب على المهارات الرقمية، مما يعزز فرصهم في سوق العمل الحديث، وفقاً لإحدى الدراسات، فإن 70% من الوظائف المستقبلية ستكون بحاجة إلى مهارات تقنية، وهو ما يجعل التعليم والتدريب أمراً ضرورياً للبقاء في المنافسة.تحديات اجتماعيةعلى الرغم من الفرص المتاحة، فإن التحديات الاجتماعية لاتزال قائمة، الفقر هو أحد أبرز هذه التحديات، حيث يعيش حوالى 80% من السكان تحت خط الفقر وفق تقديرات الأمم المتحدة، ويوضح الدكتور مفتاح أن “تحقيق العدالة الاجتماعية في اقتصاد السوق الحر يتطلب استراتيجيات لدعم الفئات الهشة، مثل توفير قروض صغيرة للمشاريع الناشئة، وإطلاق برامج لدعم العائلات ذات الدخل المحدود.”قضية أخرى لا تقل أهمية هي دور المرأة في الاقتصاد الجديد، وتشير الأرقام إلى أن نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل السوري لا تتجاوز 16%، وهو معدل منخفض مقارنة بالمعدلات العالمية.. زيادة هذه النسبة إلى 30% فقط يمكن أن يسهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% على الأقل، مما يبرز أهمية تطوير سياسات داعمة لتمكين المرأة اقتصادياً.
التعليم والتأهيل المهني
لا يمكن تحقيق تحوّل اقتصادي حقيقي من دون التركيز على التعليم، فهو العامل الأساسي في بناء اقتصاد قوي ومستدام، وفي ظل التغيرات المتسارعة، أصبح من الضروري إعادة النظر في المناهج التعليمية، بحيث تتوافق مع متطلبات سوق العمل، ويشير تقرير حديث إلى أن أكثر من 60% من خريجي الجامعات في سوريا يجدون صعوبة في العثور على وظائف تناسب تخصصاتهم، ويرجع ذلك إلى الفجوة بين التعليم الأكاديمي ومتطلبات السوق الفعلية، ولحل هذه القضية يوصي الدكتور مفتاح بضرورة “دمج برامج التدريب المهني داخل الجامعات، وتعزيز الشراكات بين المؤسسات التعليمية والشركات الخاصة، لتوفير فرص تدريب عملي للطلاب قبل تخرجهم”.في بعض الدول المجاورة، تم تطبيق نموذج “التعليم المرتبط بسوق العمل”، حيث يتم تدريب الطلاب في الشركات أثناء دراستهم، مما يزيد من فرصهم في الحصول على وظائف فور تخرجهم، تبني مثل هذه النماذج في سوريا يمكن أن يكون خطوة مهمة نحو تقليل البطالة بين الشباب ورفع مستوى الإنتاجية.
رأس المال البشري
لا يقتصر تأثير التحولات الاقتصادية على الجانب المالي فقط، بل يمتد ليشمل البنية الاجتماعية ككل، الاستثمار في رأس المال البشري يعد من أهم الأدوات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، فقد أثبتت الدراسات أن البلدان التي تستثمر بشكل كبير في التعليم والتدريب تشهد معدلات نمو أعلى واستقراراً اقتصادياً أفضل.
أحد الحلول الفعالة التي يمكن تطبيقها في سوريا- برأي د. أ كريم- هو إطلاق حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في تدريب موظفيها، ما سيشجع القطاع الخاص على رفع مستوى الكفاءات، وبالتالي تعزيز الإنتاجية.
رؤية للمستقبل مع كل هذه التحولات
يبقى السؤال: هل المجتمع السوري مستعد فعلاً لهذا التغيير؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تعتمد بشكل أساسي على قدرة الأفراد والمؤسسات على التكيف مع الواقع الجديد.
ويتطلب النجاح في المرحلة المقبلة- بحسب د. مفتاح- وعياً جماعياً، علينا الاستثمار في العقول، دعم المشاريع الناشئة، وتوفير بيئة قانونية وتشريعية تحمي المستثمرين وتسهل إجراءاتهم.
“الاقتصاد والتنمية.. علاقة تكاملية
من الضروري أن ندرك أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تتحقق من دون التنمية البشرية، والعكس صحيح، عندما يتحسن مستوى التعليم والتدريب، يزداد عدد الأشخاص القادرين على المشاركة في النشاط الاقتصادي، ما يؤدي إلى نمو اقتصادي حقيقي ومستدام.
في النهاية، يتفق د. أ كريم، ود. مفتاح في الرأي، أن سوريا أمام فرصة حقيقية للنهوض اقتصادياً واجتماعياً، لكن تحقيق ذلك يحتاج إلى جهود متضافرة من الجميع، التنمية البشرية ليست مجرد شعار، بل هي الأساس الذي سيحدد مستقبل البلاد في السنوات القادمة، ومع إرادة حقيقية للتغيير، يمكن أن يصبح هذا التحول بوابة لانطلاقة جديدة نحو مستقبل أكثر إشراقاً.