الثورة – ديب علي حسن:
لا أدري لماذا حين أعتزم الكتابة عن الرجال المفكرين أشعر أن حدود المفردات ضيقة تماماً.. بل لا أبالغ إذا استحضرت قول الأخطل الصغير: ما للقوافي كلما جاذبتها نفرت..؟.
اليوم أعود من جديد إلى مذكرات أستاذنا محمود السيد أمد الله بعمره، تعود بي الذكرى إلى عام ١٩٨٥م حين انتسبت إلى دبلوم التأهيل التربوي جامعة دمشق. سألت عن مكان المحاضرات فدلني أحدهم إلى المكان.. قرعت الباب وكانت المحاضرة قد بدأت. أستاذ يقف على المنصة يقول لي: هنا الدبلوم.. عدت أدراجي، نعم أريد مدرج الدبلوم، لكن ما كنت أبدو عليه لا يدل على أني من طلابه، استجمعت قواي وقرعت الباب وقلت له: دكتور أنا طالب دبلوم، تبسم الأستاذ وقال: طيب أهلاً وسهلاً تفضل. وما أزال أذكر كيف يغصّ المدرج بـ١٥٠٠ طالب دبلوم تربوي، سواء أكانت المحاضرة من تخصصهم أم لا، لكنها من عالم يفيض علينا بماء العلم وندى العطاء.
أحد الزملاء “الدمشقيين” جاءته فرصة عمل في دولة خليجية، وحين وقف يودع الجميع نظر إلى الدكتور السيد وانهمر بالبكاء (والله يعزّ علي أن أترك هذا المكان لكنها لقمة العيش)، وحين خرج من المدرج ظلت عيناه تتمليان الأستاذ الدكتور السيد. ومن المواقف التي لا يمكن نسيانها أننا حين كنّا طلاب دراسات عليا حدث ونحن عشرة طلاب أن رسب منّا ثلاثة بمادة وعلى درجة واحدة، وأنا منهم (٥٩) المساعدة ممنوعة والعام الدراسي أطول من الجامعي، وكان يجب أن نتبع دورة اللغة الانكليزية للقبول في الماجستير، وشرط الدورة أن نكون ناجحين بكل المواد، ولئلا نفقد عاماً دراسياً كاملاً، تدبر لنا الأمر وكسبنا عاماً.
بكل الأحوال مهما تحدثنا عن أستاذنا فلن نفيه جزءاً من حقه علينا، وهذه الذكريات هنا هي جزء مما يختزنه كل طالب عرف الدكتور السيد.
الأم بوصلة
وبالعودة إلى صفحات ومحطات من دربه الطويل والثري الذي قاده إلى الذروة نقتطف من المذكرات: وبقيت أنتظر النتيجة، وكانت شهادة الثقافة العامة من أصعب الشهادات وأشقها، وأعلنت النتائج، وكان اسمي بين الناجحين فشكرت الله على نعمته وعطائه. وأبلغني ابن عمي أن أمي فارقت الحياة في أثناء تقديم الامتحانات، ولم يعلموني بالخبر، وعدت إلى القرية. وها هي المرة الأولى التي أعود إليها، ولم أحظ فيها بلقيا الصديق الصدوق الحنون، أمي التي غمرتني بعواطفها الجياشة، وحمتني برعايتها الفائقة وشجعتني على الجد والاجتهاد والمضي في دروب هذه الحياة بإرادة في منأى عن التقاعس والتواكل والسلبية، ولكم تمنيت لو مد الله في عمرها وشاركتني فرحتي في نجاحي في الجامعة، وهي التي كانت تحثنا على المواظبة والنجاح في دراستنا مرددة (يا أبنائي أنا مستعدة لأن أبيع ما فوقي وما تحتي وأؤمن لكم ما تحتاجون بشرط أن تتابعوا دراستكم، وتتفوقوا في صفوفكم).
وبعد فقدان الأمل الذي كنا نلوذ به في مسيرة حياتنا، والبوصلة التي كانت توجهنا في دروبنا لتجاوز العقبات والمعترضات والمثبطات الـتي كانت على مفترق الطرق كيف سأتدبر أمري.. وكيف سأتابع دراستي الجامعية وأنا بعيد عن الجامعة.. وكيف لي تأمين نفقات الدراسة؟، فقررت أن أعود إلى دمشق مجدداً للبحث عن عمل فيها وأبقى قريباً من الجامعة، وهنا بدأت مسيرة المعاناة مجدداً إلى أن يسر الله لي قلباً رحيماً، ويداً كريمة مدّت إلي يد العون، وأنقذتني من الكرب الذي كنت أكابده، ذلك القلب الرحيم وتلك اليد الكريمة، كانت يد الأستاذ عبد الغني العالم في وزارة الصناعة.
وكنت قد وضعت جدولاً لتنظيم أموري، إذ كنت أستيقظ يومياً الساعة الرابعة صباحاً وأتوجه من مكان إقامتي إلى الجامع الأموي سيراً على القدمين مروراً بساحة المرجة وسوق الحميدية، وأقوم في الجامع بدراسة المقررات المفروضة علينا في الجامعة، وكان يشاركني في مراجعة المقرر وموضوعاته الزميل الطالب محمد إسحاق الطحان، وكنت أبقى في الجامع إلى الساعة الثامنة صباحاً، وأتوجه بعدها إلى الالتحاق بعملي في وزارة الـصناعة، ثم التحق بالمحاضرات التي كانت تلقى بعد الظهر في الجامعة). في هذه العجالة حاولت أن أقطف من بستان رحلته باقة لتكون منارة لنا جميعاً.
أما الإنجازات العلمية وما قدمه للغة العربية والتربية، فهذا لا يمكن إيجازه، فهو نقش علمي في كل بيت ومكتبة وفي عقل ووجدان كل طلابه.