جولة في زواريب الثقافة مع الدكتور شوقي المعري (الحلقة ٤ – الأخيرة) أكشاك بيع الملخصات تحتل الحرم الجامعي.. ورائحة التجارة واضحة
الثورة – حوار هلال عون:
سألته عن “النوطة” التي حلّت محلّ الكتاب الجامعي، وأثرها على العملية التعليمية، لكنني أمام مقامه اللغوي العالي خشيت أن يكون اللفظ الصحيح هو نوتة لا نوطة، فاستدركت وخفّفت الطاء إلى تاء، ثم قلت له: لا أعلم أيّهما هو اللفظ الصحيح؟ وتابعتُ: هل الأفضل أن أقول: أُمْلِية، فابتسم الدكتور شوقي المعري، أستاذ علوم اللغة بجامعة دمشق وصاحب ما يزيد على مئة كتاب مطبوع.. وكان هذا الحوار الجميل..
– الأُمْلِيَةُ.. النوطة.. النوتة، ما الفرق بين الألفاظ الثلاثة؟
= لما بدأت دراسة الأدب العربي سمعت كلمة الأُمْلِيَة مرتين اثنتين، الأولى من الدكتورة عزيزة مريدن التي كانت تدرسنا من “كتاب الأمالي” لأبي علي القالي، في مادة المكتبة العربية، والمرة الثانية من اسم الأُمْلِيَة التي كانت تقرر علينا في بعض المواد قبل أن يكون هناك كتاب مقرر، وأشهرها أملية “النحو والصرف” للأستاذ عاصم بيطار.
إن اسم الأُمْلِيَة عربيٌّ خالصٌ، لكنّه تحول مع “تطور” الناس إلى النوطة أو النوتة، واختلف جهابذة اللغة حول الاسم المستحدث بالتاء أم بالطاء، فتذكرت بعض الكلمات التي حاولتْ الجزائر تعريبها من الفرنسية فكتبوا “طكسي” بدل تكسي، ظناً منهم أن الطاء حرف فخم أما التاء فرقيق لطيف. .ما أود قوله: الكلمتان غير عربيتين.
– أياً كانت التسمية فما الذي ساعد على انتشارها؟
= منذ ثلاثة عقود تقريباً بدأت ملخصات المواد التعليمية بالانتشار، وكان انتشارها واسعاً، والأسباب كثيرة..أظن أنها بدأت منذ أن تقرر الكتاب الجامعي، فصار الطالب ينظر إلى الكتاب على أنه مادة كبيرة كثيفة ثقيلة لا يستطيع دراستها كلها، فكان يحاول أن يلخصها، لكنه كان يخاف أن يكون تلخيصها مضطرباً، ولما وجد الأُمْلِيَةَ التي تختصر كتابه أسرع إليها، وهو يظن أنها ستكون أسهل من تلخيصه هو.!
– هل اعتمدتَ الأُمْلِيَةَ لما كنت طالباً؟
– لا لم تكن الأمالي (الملخصات) قد عرفت طريقها إلى أيدي الطلاب، ولم نكن نستقي العلم من تلك الأوراق القليلة العدد، التي لم تكن مادة كاملة منها أحياناً تعادل جزءاً من محاضرة كنا نتلقاها في قاعات التدريس، بل على العكس من ذلك فقد كان الأستاذ الجامعي، ولاسيما في المواد الاختصاصية يلقي علينا محاضرته ثم يختمها بأن يثبت على اللوح/ السبورة عدداً من المصادر والمراجع التي تعين في إثراء المحاضرة وتزيد من معارفنا العلمية، لقد كانت هذه الأسماء لي وجبة دسمة تقتضي مني أن أقصد منطقة الحلبوني وأشتري ما تيسر لي من تلك الكتب، فإن كان المبلغ وافياً كانت بضاعتي كبيرة، وهذا ما جعلني أنشئ مكتبة اختصاصية تقترن بها كتب قريبة من الاختصاص الدقيق، وهذا ما نفتقده عند معظم الناس حتى المدرسين.
– ما قصة كتبك والدكتور شاكر الفحام؟
= من الأمور التي أتذكرها جيداً أنني لما كنت طالباً في السنة الثالثة.. كنت أحمل معي بعض الكتب، فمرة وقع نظر الدكتور شاكر على أحد الكتب التي أمامي فاستأذنني أن يرى الكتاب، فلنتخيل تلك الأخلاق التي جعلتني لا أتردد فأقول له: ليكن لك سأشتري بدلاً منه. لكنه رفض، وكان هذا الموقف حافزاً لي أن أحضر كل مرة كتاباً جديداً، وكان في كل مرة يسألني ما الجديد معك؟
– هل كانت الأمالي ( الملخصات) خاصة بطلاب الجامعة؟
= في البداية نعم كانت خاصة بالجامعة، ثم انتقلت إلى طلاب المراحل التعليمية قبل الجامعية، وقد غزت المدارس كلها في المراحل المدرسية كلها، ولاسيما طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية. وهنا كانت الخطورة الكبرى.
في الجامعة كان نفق كلية الآداب هو السباق إلى نشر هذه الملخصات بعد أن تحول من “كافتيريا” إلى سوق لبيع العلم.! وصارت محاله تتنافس في تجارة العلم، فأنشؤوا لهم مكاتب خاصة لهذه العملية التي تدر المال كثيراً؛ لأن طالبنا دخل مرحلة الكسل في كل شيء ومرحلة الركود العلمي، وطلاب الآداب بعشرات الآلاف.
– هل كانت خاصة بمواد كلية الآداب؟
= في البداية نعم، ولكن سرعان ما انتشرت العدوى إلى بقية كليات المجمع التعليمي الموجود هناك، فصار لطلاب الصيدلة أمالي (ملخصات)، ولطلاب الطب وطب الأسنان، وراجت تجارة العلم وكلما راجت تراجع العلم. ثم انتشرت فصارت سوقاً رائجة في كل الكليات وما يتبعها من معاهد.
– وماذا عن الأكشاك داخل الكليات؟
= لم تتوقف القضية عند أكشاك، بل زادت فصارت محال، والغريب أنها داخل ما يسمى الحرم الجامعي، وبالتأكيد لا يجرؤ أحد على اقتحام أسوار كلية وإدخال كشك أو استئجار قطعة من قاعة أو كلية.. بل يجب عليه أن يحصل على موافقات كثيرة، أولها الأمنية..! وبالتأكيد سيكون هناك اتفاق بين الجامعة والمستفيد، وهنا تدور أفكار كثيرة في رؤوس الناس، وتُطرح أسئلة كثيرة، ليس هنا مكان البحث عن الجواب عنها، لكنْ ثمة جواب واحد نبحث عنه، كيف يُسمح لمثل هذه الأكشاك احتلال أجزاء من الحرم الجامعي؟
لا يختلف دور هذه الأكشاك والمحال عن دور مكتبات النفق، وربما كان لها فرع في النفق.. وكلنا لاحظ أن كل هذه الأماكن توسعت وصارت مؤسسات- برأيي- قضت على كل ما يسمى الكتاب الجامعي.
– من الذي يرفد هذه المكتبات بالملخصات؟
= لكل مادة طالب أو اثنان يفرّغ معلومات المادة، ومعروف من قبل الجميع، بل هناك إعلانات عامة وخاصة عن أعمال المؤسسة، وهناك تنافس كتنافس التجار في الأسواق.
– ألم يفكر أحد بإغلاقها؟
= في أواخر القرن الماضي كنت من مكتب نقابة المعلمين في كلية الآداب، وحاولنا إغلاقها، لكننا اصطدمنا بمحافظة دمشق المستثمرة للنفق التي انتصرت علينا، طبعاً المال يلعب دوره القذر، ولما صرتُ وكيل الكلية في العام ٢٠٠٠ حاولت مع الجهات المخولة فانهزمنا مرة ثانية.
– وماذا عن الملخصات في مرحلة ما قبل التعليم الجامعي؟
= بدأت الأمالي عند طلاب المدارس في الملخصات التي كان يعتمدها المدرسون بحجة أنهم سيخففون عن الطالب عبء المادة الكثيفة، وهذا يفرح الطلاب كثيراً، فقد صارت المادة تُدرَس في ساعات قليلة.
وتطورت هذه العملية كثيراً فصارت المادة في عدد من الأوراق قليل، وفي عدد من الأسئلة التي سيحفظها الطالب عن ظهر قلب (بصم) وينجح جميع الطلاب بعلامات تكاد تكون واحدة لأن الامتحان في عدد من الأسئلة يستطيع كل طالب أن يحفظها ويعيد كتابتها على ورقة الامتحان.
فالطالب يفرح لأنه نجح بعلامة جيدة، والمدرس يفتخر أن طلابه النجباء لم يكونوا هكذا، إلا لأنه مدرس مميز، طريقته ساحرة، نابغة زمانه.. وما درى الجميع بل المدرس يدري أنهم أساؤوا للعلم ومسخوا العلم كرمى لكلمتي مديح ينتظرهما المدرس من الأهل والطلاب والمدرسة أو المعهد الذي يدرس فيه.
أما طلاب الشهادات، فهنا الطامة الكبرى، لأن الملخصات انتشرت بأنواع كثيرة من الإعلانات التجارية الرخيصة على مرأى المجتمع كله ومسمعه، وطالب الشهادات ولاسيما البكالوريا كان يبحث عنها في أي مكان، ولم يكن يكتفي بأُملية واحدة بل كان يشتري عدداً منها لكل مادة، هذا غير التصوير وأسئلة ونماذج ما أنزل الله بها من سلطان، حتى صارت تكلف مبالغ طائلة، لكنه لم يكن يحسبها لأن ما دفعه من أقساط ودروس خاصة بالملايين.لقد كانت وبالاً على العملية التعليمية كلها في كل مراحلها.
– وعلى من يقع اللوم أو الحق؟
= الحق يقع على العملية الامتحانية كلها وفي مقدمتها الأستاذ.
– كيف ولماذا؟
= منذ أن تقرر الكتاب الجامعي وألزم الأستاذ به، صار واجباً التقيد الحرفي بما ورد في الكتاب ولم يسمح له بالسؤال العقلي الذي يعتمد الفهم من بين سطور الكتاب، وهذا جعل المادة محدودة ولاسيما في المواد النظرية التي تعتمد الحفظ فحسب، زد على ذلك النظام الفصلي الذي قلّص أيام الدراسة كثيراً، حتى إن الفصل لم يكن يتجاوز ثماني محاضرات، فما الذي سيتعلمه الطالب في هذه المحاضرات؟، كذلك اعتماد المدرس نمطاً من تتكرر فيه الأسئلة، فعمد الطلاب إلى طريقة سهلة للنجاح، بأن اعتمد الطالب حلّ عدد من النماذج الامتحانية، فنجح بلا جهد يذكر، والنتيجة: نجاح جيل لا يقرأ ولم يتعلم.