الثورة – أحمد صلال – باريس:
في هذا الفيلم الوثائقي الذي لا يمكن تصنيفه، والذي يعج بالبناء الموسيقي والرّسوم المتحرّكة تقدم ليلى البياتي سرداً موسيقياً ذاتياً، ورحلة عائلية تتبع آثار تاريخها الخاص، في هذا الفيلم الوثائقي المؤثر، تستكشف ليلى البياتي أصولها العربية وتستعيد قوتها.
ليلى البياتي ليست مخرجة أفلام فحسب، بل هي موسيقية أيضاً، تغني بصوت هشّ، يوشك على الانهيار، لا يفارق صوتها فرانسواز هاردي، لدرجة أنها تستعير كلمات آنا كارينا مباشرةً، التي تقتبس منها حرفياً أغنية “ماذا أفعل؟ لا أعرف ماذا أفعل” من فيلم “بييرو المجنون”، ليس على شاطئ البحر، بل في حقول القمح، حقول كانتال حيث نشأت، بعد نوبة فقدان ذاكرة، تختار ليلى العودة إلى أصولها، أصول والدها العراقي المنفي، لتتواصل مجدّداً مع الثقافة العربية التي كانت قد أهملتها حتى ذلك الحين.

تبدأ ليلى بتعلم اللغة العربية، ويتطور الفيلم مع تعلم اللغة، بغموضها وترددها وصمتها وتلعثمها. كقصيدةٍ مثقوبة، تتنقل الصور بين الأرشيفات والرسومات ومشاهد الحياة اليومية، في الشوارع والحدائق.
من عبدول إلى ليلى، تتجلى هذه البادرة الرقيقة من الحب تجاه الأب، الرجل العجوز القادر على الإدلاء بتصريحات لا تنتهي لأشجار النخيل، أشجار قلبه، بسهولة أكبر من ابنته التي يبقى معها متمسكاً بها، لكنها مع ذلك تحمل رسالة عالم عربي تقدّمي.
“لطالما فضّلتُ الغناء على الكلام”. ابنة أب عراقي وأم فرنسية، ليلى تبدو وكأنها مُقسّمة إلى نصفين، مُمزّقة بأصولٍ سعت وراءها لعشرين عاماً، تفتقر إلى السمسم الذي يفتح الأبواب، والذي سيُجسّد تدريجياً في اللغة والغناء.
طوال هذا الفيلم المُغنّى والمُرسوم، تُحاول ليلى فصل الحقيقة عن الزيف، تبدأ القصة في برلين، مدينة البدايات الجديدة، مدينة الكائنات المُتعددة. بمواجهة قصائد والدها، العراقي المُنفى الذي هرب من الاضطهاد، تغوص في جذورها كما في تاريخ بلدها، بلدٌ ينتهي بهوسها، وتطارد أشباحه أحلامها.
رحلة ليلى رحلةٌ مُتعثّرة، سنتتبّع خيطها، الحاضر العائم بهويته المُشتّتة يفسح المجال للتجوال من بلدٍ إلى آخر، إلى الحادث الذي يُجبرها على البقاء لمدة عام على سرير المستشفى، إلى الإقامة في العراق، قبل عشرين عاماً، والتي ستُغيّر حياتها. حياةٌ دُمّر الكثير منها، كولادة جديدة.
نفهم تدريجياً أن الفيلم أشبه بمذكرات شفاء، إذ يُجسّد في كلمات وصور اضطراب ما بعد الصدمة الذي طمس حدود الشخصية، مما دفع المخرجة إلى بناء شخصيّة تتقمص حياتها وملابسها.
بعد فيلم “برقية برلين” وفيلم “فو” متوسط الطول، الذي عُرض في منتدى إكسبانديد ببرلين، تعود ليلى البياتي بفيلم جديد يتحدى كل المقاييس.
عُرض فيلم “من عبدول إلى ليلى” في المسابقة الوطنية بمهرجان بروكسل السينمائي الدولي السابع، وحصد جوائز مهرجانات (عُرض في مهرجان الجونة السينمائي، ونال جائزة أفضل فيلم آسيوي، وفي مهرجان ثيسالونيكي للأفلام الوثائقية، قبل أن يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان تطوان للسينما المتوسطيّة، وجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان آرهوس السينمائي ومهرجان روتردام للسينما العربية).