دمشق- مروان دراج :
كنت في العام 2002 على رأس عملي في صحيفة الثورة (السورية) كمسؤول عن إحدى الدوائر في الشؤون المحلية، جاء زميل مصور صحفي الى مكتبي، يعمل في الصحيفة ذاتها ومعه عدد من الصور لشاب في مقتبل العمر، كان يؤدي الخدمة الإلزامية في إحدى القطع العسكرية.
الحكاية هي على الشكل الآتي: تقول الصور التي كان صاحبها قد حضر مع المصور، إن هذا الشاب كان يعيل عائلته، وكان مضطراً أن يفعل كما يفعل عدد كبير من الملتحقين في الخدمة الإلزامية، أي كان يدفع مبلغاً أسبوعياً أو شهرياً مقابل ما يسمى (التفنيش) الذي يعني الغياب الكلي عن القطعة التي يخدم بها من دون أن يسأله أحد عن سبب الغياب، في سبيل الالتحاق بمهنته التي تغطي حاجة عائلته من المال، وأيضاً المبالغ التي سوف يسددها للضابط المسؤول عنه.
اعتاد هذا الشاب طيلة فترة زمنية طويلة على هذه الحال.
بعد فترة من الزمن، أصبح الضابط يطالبه بمبالغ أكبر من المتفق عليها، لكن المجند تأفف ولم يستجب كون المبلغ كان مرتفعاً وفوق طاقته.
في إحدى المرات، خرج هذا المجند عن طوره وهدد الضابط بأنه سوف يشكوه لمن هو أعلى منه رتبة فيما لو استمرت مطالبته بالمال الذي يفوق قدرته.
لم يحتمل الضابط هذا التهديد وقال له: لو أبلغت عني سوف أقص لسانك.
المجند لم يبلغ عنه، وعاد يؤدي خدمته يومياً في المكان الذي يخدم به، لكن الضابط لم يتركه وشأنه، لكونه توقف عن تسديد المال له.
في أحد الأيام فوجئ المجند بدعوته الى مكتب الضابط، من دون أي سؤال وبلا مقدمات، قام عدد من المجندين بتثبيت هذا المجند على الأرض، ثم بادر أحدهم بسحب لسانه من فمه وقطعوا نحو ثلثه وسبح في دمه، كما قاموا بضربه وكسروا يده اليسرى.
قام الشاب بإسعاف نفسه الى أحد المشافي بعد أن تلقى الضابط تطمينات بأنه لن يتكلم حول ما جرى معه.
لكن ظن الشاب، أن بمقدوره فضح هذا الضابط من خلال التقدم بشكوى الى وسائل الاعلام، وقام بالتواصل مع المصور الصحفي الذي حضر الى مكتبي وأحضر معه عدداً من الصور التي تؤكد حقيقة ما جرى.
من ناحيتي، كنت أعلم علم اليقين أن رئيس التحرير لن يوافق على النشر تحسباً من الأذى الذي سوف يتعرض له من هذا الضابط نفسه، أو من المنظومة الفاسدة التي تحمي أمثاله، مع ذلك، ومن باب إحراج رئيس التحرير بادرت بالدخول الى مكتبه وأطلعته على مجريات وتفاصيل هذا الإجرام.
سمعني رئيس التحرير حتى الآخر، ثم قال لي حرفياً: قل لهذا المجند أن يشكو أمره لله .. وانصحه أن يتوقف عن طرق أي باب.. كي لا يؤذي نفسه أكثر من ذلك.. ومن ناحيتك أتلف الصور.. وانسَ الموضوع.
عدت الى مكتبي، وأخبرت الزميل المصور بكل ما جرى وبأن يتلف الصور. ومن ناحيتي تظاهرت بإتلافها، في حين احتفظت بها ووعدت نفسي بنشر هذه الحقيقة بعد سقوط النظام، وها هو اليوم قد جاء كي أنشر هذه التفاصيل على الملأ، كي يعلم الجميع مع أي نظام كنا نعيش، وحتماً هذه التفاصيل ليست أكثر من نقطة في بحر ما جرى في سجن صيدنايا وغيره من السجون.
الصورتان للمجند الذي لا أدري عنه شيئاً اليوم.. والمصور الصحفي ما زال حياً يرزق.