أحمد نور الرسلان – كاتب صحفي
منذ انطلاقة الحراك الشعبي السوري ضد نظام بشار الأسد عام 2011، كان الخطاب الجامع هو السمة البارزة في رؤية أبناء الثورة ممن تعددت أطيافهم وطوائفهم ومعتقداتهم، مؤكدين بصوت واحد أن “سوريا لكل السوريين”، وأن “الشعب السوري واحد” ومصيره واحد، وأن الخلاص من النظام المستبد هو بداية بناء سوريا الحرة، لتكون وطناً جامعاً لا إقصائياً.
وخلال سنوات مضت، حارب السوريون كل مشاريع التقسيم، ووقفوا بصوت عالٍ ضد أي مشروع انفصال، مؤكدين أن سوريا واحدة لا تتجزأ، لكن مع سقوط نظام بشار الأسد، بدأت تطفو على السطح مشاريع وخطوات حاولت بعض الأطراف تمريرها مستغلة حالة الفراغ في السلطة وغياب دور المؤسسات، فكانت أحداث الساحل بقيادة فلول النظام البائد، وما تلاها من عواقب وأحداث انتهت بفرض كلمة الدولة.
على الضفة المقابلة شرقاً، كان ملف “قوات سوريا الديمقراطية” عقبة كبيرة في إعادة بناء الدولة، ولكن تُوجت مساعي السلطة السياسية في دمشق باتفاق لتجنب أي صدام وأي مشروع انفصال، كان الموقف الدولي داعماً، وحتى شعبياً كانت الفرحة عارمة عبر عنها السوريين في الساحات عقب إعلان توقيع الاتفاق مع “قسد” الذي يحتاج لخطوات ملموسة لتطبيقه رغم كل التحديات التي تواجهه.
وفي الجنوب السوري، كان لمحافظة السويداء وحراكها الشعبي دور بارز وريادي في الثورة السورية لاسيما السنوات الأخيرة، واستطاعت المحافظة التخلص من هيمنة النظام وأفرعه الأمنية ورفع صوتها عالياً معلنة وقوفها إلى جانب الحق وثورة السوريين، لكن أصوات من داخل المحافظة كانت تتجه لعزلها وتبني خطاب منعزل وبعيد عن روح الوطن، وصل لحد رفض رفع علم الثورة الجامع.
هذا الخطاب بدأ يظهر جلياً عقب سقوط نظام بشار الأسد، وتولي السلطة الجديدة برئاسة الرئيس “الشرع”، رغم إشادته بمواقف أهالي السويداء وثوارها، وعقده عدة لقاءات مع شخصيات دينية وعسكرية ومدنية في قصر الشعب، والتأكيد على دور السويداء المحوري، لكن بعض المرجعيات الدينية تبنت خطاب معارض ومناهض للسطلة وبدأت تتجه نحو التصعيد وعزل السويداء عن الوطن الأم.
قاد هذا التوجه الشيخ “حكمت الهجري” أحد مشايخ عقل طائفة المسلمين الموحدين (الدروز)، وساندته مرجعيات أخرى في الأراضي المحتلة من إسرائيل، تمثل موقفه في رفض السلطة الجديدة، ومهاجمتها واتهامها في الإرهاب، رغم كل الدعوات من العقلاء في المحافظة لتبني خطاب سوري جامع بعيد عن أي مشاريع خارجية و انفصالية، يكون أهل السويداء ككل المحافظات شريكاً في إعادة بناء الدولة ورسم صورتها الجديدة.
وقع “الهجري” في ازدواجية متناقضة في مفهوم نظرته لحكم الأغلبية، ففي الوقت الذي رفض فيه هيمنة طائفة واحدة على سوريا – رغم أن الثورة السورية لم تكن يوماً حكراً على طائفة واحدة – إلا أنه يحاول من خلال سطوته الدينية فرض “الطائفة الدرزية” كأغلبية في المحافظة، مهمشاً باقي المكونات الأخرى وغير مكترث لموقفها، ما يعكس تناقضاً في الموقف بين رؤيته لحكم سوريا ككل أو السويداء كمحافظة.
شكل موقف “الهجري” عقبة كبيرة أمام دخول مؤسسات الدولة إلى السويداء، وخلق نزعة انفصال عن الدولة، داعياً إلى تدخل وحماية دولية، رغم كل السياسة اللينة التي تنتهجها السلطة في دمشق لمنع أي صدام أو مواجهة بين أبناء الشعب الواحد، وتقبل الكثير من الشروط التي حاول فرضها بما يرتبط بتشكيلة القوى الأمنية والشرطية والمؤسسات الحكومية لتهدئة الموقف وطمأنة أبناء المحافظة، لكن هذا لم يغير في نهج “الهجري” وخطابه التصعيدي.
في مقابلة أجراها من قريته قنوات في السويداء، ونشرتها صحيفة “واشنطن بوست”، قال الهجري إن “إسرائيل ليست العدو”، وأضاف: “نحن في أزمة، وندعو إلى تدخل دولي”، سبقها إصداره بيان تبنى فيه خطاب تصعيدي ضد السلطة وقال إنه فقد الثقة بها والتي وصفها بأنها “تغذي التطرف وتنشر الموت بأذرعها التكفيرية”.
واعتبر الهجري أن طلب الحماية الدولية هو “حق مشروع لكل شعب يُباد”، داعيًا المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لحماية المدنيين والحد من المذابح الموثقة، أيضاَ رفض الإعلان الدستوري، رغم أن “الهجري” لم يطلب حماية دولية أو تدخل إبان عهد نظام بشار الأسد، وكل المذابح والجرائم والانتهاكات التي مورست بحق السوريين طيلة عقد ونيف من الزمن.
اتسمت تصريحات “الهجري”، بالفوقية على سلطة الدولة، وأنه المتحكم الوحيد بالسويداء، منصبًا نفسه الحاكم الرسمي في المحافظة، مهددًا الكثير من الفصائل والجهات المدنية من التعامل مع دمشق من دون موافقته وعلمه، مؤكدًا أن الكلمة الأخيرة هي له، في وقت يتخذ من الموقف الإسرائيلي الرافض لتغير السلطة في سوريا درعاً وحماية له، رغم أن مسؤولين إسرائيليين أكدوا أكثر من مرة أن “إسرائيل” تتبنى فكرة حماية “الدروز” لمصالحها فقط.
ورغم البيانات الصادرة عن “مشيخة عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز” والتي أكدت فيها على تمسكها بوحدة الدولة السورية، ورفضها القاطع لأي شكل من أشكال الانفصال أو مشاريع التقسيم، وأنها ستظل جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية السورية الجامعة، يواصل “الهجري” تبني خطاب مناقض ويحاول فرض صوته وقراراته على أهالي المحافظة، مستغلاً دعم بعض القوى والأطراف بما فيها “إسرائيل” لهذه النزعة في الانفصال والتوجه لخلق الفوضى في المنطقة.
ولم يستجب “الهجري” لدعوة الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، إلى تعزيز السلم الأهلي في سوريا، والتأكيد على أن أبناء الطائفة الدرزية في سوريا “ليسوا بحاجة إلى أي حماية خارجية”، مشددين على أن وحدة سوريا أرضًا وشعبًا تبقى خيارًا لا رجعة عنه.
هذا التوجه، والاضطراب لدى بعض القوى والذرائع التي تحاول تمريرها شعبياً في المحافظة، ترافق مع تحركات إسرائيلية حقيقية تظهر دعم مشروع الانفصال جنوبي سوريا، وكشفت تقارير رسمية عن أن التوظيف الإسرائيلي لم يكن مبادرة فردية، بل جزء من حملة تنفذها شبكة منظمة تسعى لتغيير واقع الجنوب السوري سياسياً، عبر تبنّى سردية انفصالية، وتضخيم مشكلات السويداء لدفعها باتجاه الارتماء في الحضن الإسرائيلي، واستثمار حالة الفوضى، لإعادة تشكيل هوية الجنوب السوري.
ويبقى مصير الجنوب السوري – السويداء تحديداً – مرهوناً بمدى جدية المرجعيات الدينية والشخصيات العسكرية والمدنية، في تغليب مصلحة الوطن على الطائفة ونبذ مشاريع الانفصال والفوضى، والتوجه لخطوات تقارب حقيقية تبدد حالة الخوف وعدم الاستقرار وتتجه لتمكين مؤسسات الدولة السورية كما في كل المحافظات، والمشاركة الفاعلة في إعادة بناء الدولة كوطن جامع لا يقصي أحد، لتكون سوريا وطناً للجميع بكل الطوائف والملل، تحترم تنوعها المذهبي وخصوصيتهم، وترفض أي أصوات تطالب بالتدخل الخارجي أو التقسيم.