الثورة – بسام مهدي:
في ظلّ التحولات التي تشهدها سوريا الجديدة، بعد انتصار الثورة في 8 كانون الأول 2024، وخلال مرحلة ما بعد التحرير، ومع تصاعد جهود إعادة البناء، واستعادة الثقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية، تبرز الشائعات والأخبار المزيفة كأحد أخطر التحديات غير التقليدية التي تواجه بنية الدولة السورية الجديدة.
فهي ليست مجرد معلومات مغلوطة أو تحليلات خاطئة، بل أدوات عدائية تُستخدم بشكل ناعم ومدروس لزعزعة الثقة بالمؤسسات الحكومية، وتشويش الرأي العام، وإرباك عملية اتخاذ القرار.. والهدف من تسليط الضوء على هذه الظاهرة في هذا المقال هو تحليل الأثر العميق لهذه الموجات الإعلامية المضادة على استقرار المؤسسات الحكومية، وبيان كيف تتحول الشائعة من مجرد “كلمة” إلى “خطر داخلي صامت” يهدد أمن سوريا الإداري والاجتماعي.
من هنا، فإن كشف آليات عمل هذه الشائعات، وطرح رؤية وطنية عقلانية لمواجهتها، لم يعد ترفاً صحفياً، بل ضرورة إعلامية وأمنية تستوجب وعياً جماعياً وتنسيقاً مؤسساتياً فاعلاً.
عرض وتحليل الظاهرة
تُعرّف الشائعة بأنها معلومة غير موثقة المصدر تنتشر بسرعة في الأوساط الاجتماعية، وغالباً ما تكون مشحونة بالعاطفة أو التهويل، فيما تُعدّ الأخبار المزيفة أخباراً ملفّقة تُنشر بقصد التضليل أو التلاعب بالرأي العام.
في السياق السوري، تجد هذه الظواهر أرضاً خصبة بسبب مجموعة من العوامل المركّبة، في مقدمتها غياب المعلومة الرسمية الفورية، أو ضعف قنوات التواصل المؤسسي مع الجمهور، ما يترك فراغاً تتسلل إليه الشائعات بسهولة.
كما تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تسريع انتشار الأكاذيب، نظراً لضعف الرقابة وغياب الثقافة الإعلامية لدى كثير من المستخدمين، ويضاف إلى ذلك المناخ الاقتصادي الضاغط الذي يجعل المجتمع أكثر قابلية لتصديق الأخبار السلبية أو المفزعة.
أما على مستوى المؤسسات الحكومية، فإن الأثر يكون بالغ الخطورة، إذ تؤدي الشائعات إلى التشكيك في النوايا والسياسات، وتربك الرأي العام، وتعطّل تنفيذ الإجراءات الإدارية والتنموية، بل وتضعف الثقة بين المواطن والمسؤول، ما يهدد جوهر الاستقرار الإداري والاجتماعي في البلاد.
أمثلة واقعية مدروسة
من الأمثلة البارزة التي تعكس خطورة الشائعات على زعزعة الاستقرار في سوريا، حين كشف تحقيق استقصائي لـ “بي بي سي” عن شبكات خارجية تغذّي الطائفية وخطاب الكراهية في سوريا، تنشط على منصة إكس، وتعمل على تأجيج الطائفية ونشر خطاب الكراهية، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع في سوريا.
وأوضح التحقيق أن هذه الشبكات تُدار بشكل منسّق ومنهجي، ضمن حملات إلكترونية استهدفت الحكومة السورية الجديدة وبعض الأقليّات، بالتزامن مع التغيرات السياسية التي تشهدها البلاد.
وقد تمكّن فريق “بي بي سي” لتقصي الحقائق من تتبّع نشاط هذه الحسابات من خلال رصد أكثر من مليوني منشور مرتبط بالأحداث في سوريا، منذ سقوط نظام الأسد المخلوع، وقام الفريق بتحليل عينة تشمل أكثر من 400 ألف منشور على منصة إكس (المعروفة سابقاً باسم تويتر).
ومن الأمثلة الأخرى أيضاً إزاء ما يُتداول عبر بعض المنصات حول مزاعم بوجود تدخلات من جهات خاصة في عمل وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات السورية، أو توقيعها لعقود جديدة مع جهات عربية أو أجنبية، وبدورها نفت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات هذه الادعاءات جملة وتفصيلاً، وأكدت الوزارة أن لا علاقة لها إطلاقاً بالجهات المذكورة.
ومن الأمثلة الأخرى لنشر الإشاعات والأخبار المزيفة، انتشار فيديوهات قديمة بصيغة مزيفة، أُعيد استخدامها بسياق لا يمت للحقيقة بصلة، أو انتشار فيديوهات التحريض الطائفي عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، أو نشر قرارات حكومية مزيفة، أو نشر شائعات بإطلاق وعود حكومية، أو نشر قرارات اقتصادية وهمية.
إن مثل هذه الوقائع وغيرها، تبيّن كيف أن الأكاذيب الممنهجة لا تستهدف فقط خلق التشويش، بل تسعى إلى إضعاف هيبة الدولة وزعزعة ثقة الشارع بإدارتها، ما ينعكس سلباً على سير العمل الحكومي ويجعل الاستجابة للأزمات أكثر تعقيداً وتأخراً.
تحليل استراتيجي للأبعاد
لا يمكن النظر إلى موجات الشائعات التي تُغرق الفضاء الرقمي السوري على أنها مجرد تصرفات فردية أو ارتجالية، بل إنها في كثير من الأحيان تحمل طابعاً منظّماً وممنهجاً يُدار من غرف عمليات إعلامية خارجية، تتقاطع أهدافها مع أجندات سياسية تسعى للنيل من استقرار الدولة السورية الجديدة.
إن هذه الجهات التي تقف وراء هذه الحملات تدرك تماماً أن ضرب الثقة بالمؤسسات الرسمية هو المفتاح لإضعاف الدولة من الداخل، ولذلك تركّز على استهداف المفاصل الحيوية، لأنها تمسّ حياة المواطن اليومية.
وترتبط هذه الحملات بالحرب الإعلامية الأوسع، التي تستخدم منصّات التواصل كساحة حرب بديلة، تعتمد التضليل والتهويل بدلاً من الوقائع، ما نشهده اليوم هو جزء من صراع معلوماتي عابر للحدود، تسعى فيه أطراف معادية إلى بث الفوضى الناعمة، والتأثير على المزاج الشعبي من خلال تسويق روايات زائفة تُضعف الثقة وتُربك مؤسسات القرار، لذا، فإن هذه الشائعات ليست عفوية، بل تُدار بحسابات دقيقة تستغل اللحظات الحرجة، وتضرب في أوقات الترقب والقلق لتضاعف من تأثيرها.
الإعلام والمؤسسات في المواجهة
في مواجهة سيل الشائعات والأخبار المفبركة، بدأت المؤسسات السورية تُدرك تدريجياً خطورة هذا التحدي، فاتجهت إلى تفعيل أدوات الرد الإعلامي، عبرإصدار بيانات توضيحية، واستخدام المنصّات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي لنفي الأخبار الكاذبة وتقديم المعلومة الصحيحة.
كما برزت بعض المحاولات لإطلاق حملات توعوية بالتنسيق مع الإعلام الوطني لشرح الحقائق والتصدي للتضليل، ومع ذلك، فإن تحليل فعّالية هذا الدور يكشف أنه لا يزال بحاجة إلى مزيد من التطوير من حيث السرعة، والانتشار، والقدرة على الإقناع.
أدوار إضافية مطلوبة
في معركة مواجهة الشائعات والأخبار المزيفة، لا يكفي أن تتحرك المؤسسات الرسمية وحدها، بل يجب أن تتكامل الأدوار على مستوى المجتمع بأسره، وأن المواطن الواعي هو خط الدفاع الأول، إذ تقع عليه مسؤولية التحقق من صحة المعلومات قبل مشاركتها، وممارسة النقد البناء بعيداً عن الانجرار وراء الإثارة والمبالغات، كما يُعد التعليم والإعلام التربوي حجرالأساس في بناء هذا الوعي، من خلال إدراج مفاهيم “التربية الإعلامية والمعلوماتية” ضمن المناهج الدراسية، وتنظيم برامج توعوية تعزز التفكير النقدي وتُنمّي مهارات التمييز بين الخبر الحقيقي والمفبرك.
وبالتوازي، يبرز دورالقانون كأداة ردع أساسية ضد من يروّجون الشائعات عمداً بهدف إثارة الفوضى أو تقويض الاستقرار، وذلك من خلال تشريعات واضحة وصارمة تُجرّم نشرالأخبارالكاذبة وتحدد آليات مساءلة قانونية فعّالة،من دون المساس بحرية التعبير المسؤولة.
إن تضافر هذه الأدوار يشكّل شبكة حماية مجتمعية متكاملة، قادرة على تحصين الرأي العام، وصون مؤسسات الدولة من حملات التشويش الممنهجة.
ختاماً، لا يمكن التقليل من خطورة الشائعات والأخبار المزيفة التي باتت تشكل تهديداً حقيقياً للاستقرار المؤسسي والاجتماعي في سوريا، خاصة في هذه المرحلة الحساسة التي تتطلب تضافرالجهود الوطنية لإعادة البناء واستعادة الثقة العامة، فهذه المعركة، وإن كانت تدور في الفضاء الإعلامي، إلا أنها ليست إعلامية فقط، بل هي معركة ثقافية تتعلق بوعي المجتمع، وأمنية ترتبط بحماية الجبهة الداخلية، وتكنولوجية تستدعي مواكبة أدوات المواجهة الحديثة.
من هنا، تبرزالحاجة الماسة إلى تكثيف التنسيق بين المؤسسات الإعلامية والحكومية، وتوحيد الخطاب المعلوماتي الرسمي، وتسريع الاستجابة الفورية لأي شائعة قد تهدد الأمن العام، كما يتوجب الاستثمار في رفع الوعي الإعلامي لدى المواطنين، وتطويرالبنية التشريعية لملاحقة مروّجي الأخبار الكاذبة، إن الانتصار في هذه المعركة لا يتحقق بالقمع أو الصمت، بل بالشفافية، والمبادرة، والتواصل الفعّال مع الشارع، لبناء جدار ثقة يصعب اختراقه بالكلمة المسمومة أو الصورة المضلّلة.