الثورة – نيفين أحمد:
أصدرت المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت في يونيو 2024، حكماً بالسجن المؤبد على الطبيب السوري علاء موسى، بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتعذيب معتقلين داخل مستشفيات النظام السوري.
لم تكن هذه المحاكمة مجرد سابقة قانونية في ألمانيا، بل شكّلت تحولاً جوهرياً في مقاربة المساءلة الدولية عن الجرائم المرتكبة في سوريا ورسالة قانونية مفادها أن الإفلات من العقاب ليس قدَراً دائماً.
استندت المحكمة الألمانية إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يُجيز للدول ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة مثل التعذيب وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن جنسية المتهم أو مكان وقوع الجريمة.
وقد أصبح هذا المبدأ ضرورة في الحالة السورية، خاصة أن أغلب مجرمي الحرب قد فروا خارج البلاد ويجب مساءلتهم قانونياً.
وبحسب منظمة “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” (ECCHR)، فإن المحاكمة وفّرت “نموذجاً قضائياً متكاملاً يمكن استخدامه لاحقاً في سياق العدالة الانتقالية في سوريا”، خاصة أن المحكمة لم تكتف بإدانة علاء موسى، بل وثقت عبر أكثر من خمسين شاهداً، طبيعة التعذيب المنهجي داخل المؤسسات الطبية العسكرية في عهد نظام الأسد وارتباطه المباشر بهرم القيادة الأمنية للنظام.
ما ميّز محاكمة فرانكفورت لم يكن فقط الحكم النهائي، بل ما تم جمعه من بيانات، شهادات، وتحليل بنيوي لمنظومة العنف داخل النظام السوري السابق.
المحكمة بنت تصوراً قضائياً يوضح كيف تم تحويل المؤسسات الصحية إلى أدوات قمع، ما يؤسس لما يُعرف بـ”الرواية القانونية” للجرائم وهي ضرورية في السياقات الانتقالية.
ووفقاً لتقرير صادر عن “مبادرة العدالة والمساءلة السورية” (SJAC)، فإن هذه المحاكمات لا تعالج فقط المسؤوليات الفردية بل تمثل أيضاً “فرصة لحماية الأدلة من الاندثار أو التلاعب” وقد وثّقت المحكمة كيف أن التعذيب لم يكن نتيجة تصرفات فردية بل نتاج سياسة ممنهجة من أعلى الهرم.
هل يمكن نقل النموذج إلى الداخل السوري؟ السؤال الأهم بعد هذه السوابق القضائية الأوروبية هو كيف يمكن تحويل هذه التجارب إلى آليات وطنية للعدالة داخل سوريا مستقبلًا؟.
بحسب مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الانسان، فقد أشار الى أن خبراء يرون أن العدالة لا يمكن أن تظل حبيسة الخارج، بل لا بد من انتقال تدريجي نحو بناء جهاز قضائي مستقل.. وهذا يتطلب أولاً، صياغة قانون وطني يتبنى مفاهيم الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وهو ما تعمل عليه حاليا المنظومة القانونية السورية.
وأضاف لا تسعى محاكمة فرانكفورت لفرض نموذج غربي بل تمثل جسراً قانونياً مؤقتاً لحين بناء مسارات عدالة داخلية تراعي الخصوصية الوطنية وتستند إلى معايير دولية.
ما بدأ كقضية فردية ضد طبيب شارك في التعذيب قد يتحوّل إلى مسار قضائي أوسع يطال مسؤولين من مستويات أعلى.. فقد سبق أن أدانت محكمة كوبلنز الألمانية أحد الضباط السابقين وهو من كبار مسؤولي فرع الخطيب بالسجن المؤبد أيضاً.
كما يقترح قانونيون مثل أنور البني مدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” أن يتم استخدام أحكام مثل محاكمة فرانكفورت كمصادر قضائية مرجعية في أي محاكم سورية مستقبلًا، كما فعلت بعض الدول في سياقات ما بعد النزاعات مثل رواندا أو البوسنة.
يظهر السوريون إصراراً لافتاً على تحقيق العدالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة من خلال توثيق الجرائم، والشهادات والملاحقات القضائية في أوروبا.
لقد تحوّل المجتمع السوري، لا سيما في الخارج، إلى فاعل رئيسي في المحاسبة رافضاً النسيان أو الإفلات من العقاب ومؤمناً بأن العدالة شرط لأي سلام دائم.
كما يسعى السوريون أفراداً ومؤسسات إلى ترسيخ مسار للعدالة الانتقالية مستفيدين من تجارب قضائية في الخارج لبناء ملفات ضد الجناة وتأسيس ذاكرة قانونية تُمهّد لمحاسبة وطنية مستقبلية.