الثورة – حسين روماني:
عادت الشائعات لتتسلّل إلى الفضاء العام، في خضمّ التحوّلات المتسارعة التي تعيشها البلاد، مثيرةً جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية، وأكثرها اليوم تداولاً تلك التي طالت المتحف الوطني بدمشق، عن سرقة قطع أثرية نادرة، إلى جانب تسريحٍ مفاجئ وتعسفي لموظفين يعملون في حماية هذا الإرث الحضاري.
ولأنّ المتحف الوطني لا يُمثّل مجرّد مبنى أثري، بل يُعدّ من أبرز رموز الذاكرة السورية وجذرها العميق، فإنّ ما طرح أثار قلقاً مشروعاً حول مصير هذه الكنوز التي لا تقدّر بثمن، وحول ما يجري خلف جدران المؤسسة المعنية بحمايتها.
وانطلاقاً من هذا القلق، قصدنا اليوم المديرية العامة للآثار والمتاحف، الواقعة خلف المتحف الوطني نفسه، وتجولنا بين أروقة المتحف باحثين عن أجوبة واضحة، وهناك، أجرينا لقاءً مع معاون المدير العام ومدير التنقيب والدراسات الأثرية الدكتور مسعود بدوي، في محاولة لفهم حقيقة ما يجري، وفصل ما هو واقع عما هو مُروّج، في هذا الحوار، تبيّنت لنا معالم الصورة، لمن يحرص حقاً على تراث بلاده ويضع الثقافة في قلب أولوياته.
ما بعد النفي
توجهنا بالسؤال إلى الدكتور بدوي عن حقيقة سرقة الآثار وتسريح الموظفين، لينفي بشكل قاطع هذه الشائعة ويؤكد أن جميع العاملين في المتحف الوطني ما زالوا على رأس عملهم من دون أي تغيير إداري، بل تم رفع كتاب رسمي لزيادة عدد الملاك الوظيفي، وأن المديرية دخلت مرحلة جديدة من الانفتاح، فعمدت إلى تفعيل موقعها الإلكتروني وتحديث صفحتها على “فيسبوك” لنشر المستجدات والرد على الإشكالات، في إطار تعزيز الشفافية والثقة، كما أشار في حديثه إلى “الثورة” سعي المديرية لتطوير الحضور الأمني في صالات العرض علمياً وثقافياً، من خلال توظيف خريجي معاهد الآثار كمراقبين مؤهلين، حمايةً للإرث الوطني بالعقل قبل الجسد.
مسؤولية وطنية مشتركة
يخبرنا الدكتور بدوي عن دور المتحف في حماية الآثار قائلاً: “كان الحفاظ على الكنوز الأثرية أولوية قصوى للمديرية العامة للآثار والمتاحف، فأمنت القطع الأثرية داخل المتحف، وبعد التحرير غادر بعض الحراس مواقعهم، فيما بقي آخرون صامدون ليس فقط في دمشق إنما بالعديد من المحافظات، وكان لافتاً أن وزير الثقافة بادر إلى تكريم اثنين من حراس المتحف الوطني تقديراً لموقفهما، في خطوة رمزية حملت شحنة معنوية عالية، ليس لهما فقط، بل لكل الحراس الشرفاء الذين دافعوا عن الإرث الوطني في مختلف المحافظات، استفادت المديرية من هذه التجربة العصيبة، فعززت مواقعها مجدداً وطالبت بمزيد من الحرّاس”.
وقد طمأننا البدوي أن المتحف الوطني اليوم مؤمَّن بشكل كامل عبر كاميرات مراقبة، وبوابات ونظام حراسة متناوب، مع تواصل دائم بين إدارته والأمن العام على مدار الساعة، وقد انعقد مؤخراً اجتماع بين وزير الثقافة ووزير الداخلية لمتابعة الملف الأمني للمواقع الأثرية، لكنّ حماية التراث لا تقع على عاتق الدولة وحدها، بل هي مسؤولية وطنية مشتركة، لأن من لا يعرف قيمة تاريخه، لن يكون له مكانٌ في الحاضر، ولا أفقٌ في المستقبل.
واجب أخلاقي ووطني
خطوات واسعة بدأت بها المديرية في مرحلة ما بعد التحرير بحسب ما أكد لنا الدكتور البدوي، إذ اتخذت المديرية العامة للآثار والمتاحف خطوات عملية لترسيخ ثقافة حماية التراث الوطني وتعزيز الوعي بقيمته بين مختلف شرائح المجتمع، فقد وُجّهت كتب رسمية إلى عدد من الوزارات المعنية، وفي مقدمتها وزارتي الدفاع والتربية، بهدف إدراج مفهوم حماية الآثار ضمن مناهج التوعية والتدريب، انطلاقاً من صيانة التاريخ مسؤولية تتشاركها المؤسسات كما الأفراد، وفي السياق ذاته، خاطبت المديرية وزارة الأوقاف، داعية إلى تضمين رسائل التوعية في الخطب والمنابر الدينية، لترسيخ فكرة أن حماية التراث ليست رفاهية ثقافية، بل واجب أخلاقي ووطني، وامتداد حيّ لهويتنا المشتركة، بهذا المسعى لا تكتفي المديرية بحماية الحجر، بل تسعى لحماية المعنى الكامن خلفه، ذاك الذي صاغته أجيال من السوريين، وصار اليوم أمانة في أعناق من بقي ومن عاد، ومن قرّر أن يبني على الركام ذاكرةً لا تنكسر.
بوابات التعاون الدولي تُفتح من جديد
شاركت المديرية العامة للآثار والمتاحف – في خطوة مفصلية لها – أول مرة منذ سنوات في المؤتمر الدولي للآثار الذي عُقد في فرنسا قبل ثلاثة أسابيع، بمشاركة نحو 950 باحثاً من مختلف دول العالم، هذه المشاركة الرسمية أعادت المديرية إلى خارطة التعاون الدولي، وفتحت الباب مجدداً للتواصل مع البعثات الأجنبية التي كانت تنشط سابقاً في سوريا في مجالات التنقيب والمسح الأثري، وقد تم التوصل خلال المؤتمر إلى اتفاقات مبدئية مع نحو ثلاثين بعثة أجنبية لتجديد صكوك الالتزام واستئناف العمل في المواقع الأثرية.
وفي موازاة ذلك تعمل المديرية على إعادة هيكلة إدارية وعلمية تُمكّنها من إدارة هذه الشراكات بكفاءة، عبر وضع أطر جديدة لصون المواقع، وتوثيق الأضرار التي لحقت بها خلال الحرب، وتنظيم المستودعات الأثرية، وتأهيل بيوت البعثات تمهيداً لعودتها، أما داخلياً، فهناك خطّة لإعادة تأهيل المتحف الوطني بدمشق، الذي يفتح حالياً أبوابه جزئياً عبر رواق الآثار الكلاسيكية، وقد تم توقيع اتفاقية مع منظمة “أليف” الدولية، خُصص بموجبها مبلغ 5 ملايين دولار لترميم عدد من المواقع الأثرية، أبرزها إعادة تأهيل متحف تدمر بالكامل، وقسم الآثار الشرقية القديمة في المتحف الوطني، كما يجري التحضير لمشروع تعاون جديد مع متاحف دولة قطر، سيُعنى بترميم وتأهيل قسم الآثار الإسلامية، على أن يبدأ العمل فيه قريباً.