الثورة – عمار النعمة:
في مثل هذا اليوم، من الخامس عشر من تموز، تُعاد ذكرى رحيل الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة، أحد أبرز وجوه الشعر العربي في العصر الحديث، الذي جمع بين الكلمة والموقف، وبين الفن والالتزام الوطني.
ولد عمر أبو ريشة في مدينة منبج قرب حلب عام 1910، وسط عائلة عُرفت بحسها الشعري والأدبي، نشأ في بيئة مثقفة، نهل من اللغة العربية وآدابها، لكنه لم يحصر اهتمامه بالموروث المحلي فقط، بل انفتح على الثقافة الغربية، خصوصاً بعد انتقاله إلى بيروت، حيث أكمل دراسته الثانوية في الجامعة الأميركية.
في عام 1930، أرسله والده إلى مانشستر البريطانية ليدرس الكيمياء الصناعية، لكنه لم يجد ذاته في المختبرات، بل انجذب إلى الأدب الإنكليزي، فقرأ لشيكسبير وميلتون وبايرون، وتأثر بعوالمهم، ما ساهم في تشكيل رؤيته الشعرية الحداثية.
رغم أنه لم يتلقّ تعليماً أكاديمياً في علم العَروض، إلا أن أبا ريشة امتلك أذناً موسيقية فريدة، مكنته من تطويع اللغة وتكثيف الصورة الشعرية من دون تكلّف، كان يلقي قصائده في المحافل، فيهزّ القاعات، ويأسر الحضور بنبرته وصراحته وحدّة مواقفه.
شاعر لا يساوم
عُرف أبو ريشة بشجاعته الأدبية، إذ لم يكن يكتفي بوصف العواطف أو التغني بالماضي، بل كان شاعراً ملتزماً بقضايا وطنه وأمته، انتقد الواقع العربي في مرحلة ما بعد الاستقلال، وهاجم الفساد والاستبداد، ما جعله مصدر “إزعاج” للسلطة في بلده، فدُفع إلى العمل الدبلوماسي خارج سوريا.
لكن هذا “النفي الهادئ” لم يقطع صلته بالوطن، فقد ظلّ يحمل قضايا العرب معه، أينما حل، وكان يرى في الشعر أداة للمقاومة والتنوير، لا مجرد فن للزينة.
امتدت مسيرته الدبلوماسية لأكثر من ربع قرن، وشغل خلالها منصب سفير سوريا في دول عدّة، منها: البرازيل، الأرجنتين، شيلي، الهند، النمسا، والولايات المتحدة الأميركية، ورغم تنقله الدائم، لم يتوقف عن الكتابة والإلقاء والمشاركة في المؤتمرات الأدبية.
بعد تقاعده، استقر في لبنان، ولم يغادره إلا لفترات قصيرة، إما للعلاج أو لزيارة أبنائه أو للمشاركة في مناسبات ثقافية، ورغم أوضاع لبنان غير المستقرة آنذاك، ظلّ متمسكاً بإقامته هناك، معتبراً أن الشاعر لا ينفصل عن الألم والقلق، بل يغذّيهما لخلق الجمال.
ترك عمر أبو ريشة إرثاً شعرياً وأدبياً زاخراً، من أبرز أعماله: ديوان بيت وبيان- ديوان نساء- ديوان كاجوارد- ديوان غنيت في مأتمي- ديوان أمرك يا رب.. كما كتب العديد من المسرحيات الشعرية، منها: تاج محل، سميراميس، محكمة الشعراء، الحسين، رايات ذي قار، الطوفان.
تميز شعره بالنزعة الرومانسية، وبالتغني بالعروبة، والتمسك بالهوية، والإيمان بوحدة الأمة العربية، ما جعل منه صوتاً عربياً جامعاً.
نال أبو ريشة عدة أوسمة وتكريمات من دول عربية وأجنبية، منها: سوريا، لبنان، البرازيل، الأرجنتين، النمسا، وشارك في مؤتمرات دولية ترك فيها بصمته الثقافية والإنسانية.
توفي عمر أبو ريشة عام 1990 في العاصمة السعودية الرياض بعد إصابته بجلطة دماغية، وتم نقل جثمانه إلى حلب، ليدفن في مسقط رأسه، ويبقى خالداً في ذاكرة الشعر والكرامة.
في ذكرى رحيله ما زال عمر أبو ريشة حاضراً في وجدان المثقفين ومحبي الشعر، بصوته الصادق ومواقفه الجريئة، وبإيمانه العميق بأن الكلمة الحرة لا تُهزم، بل تظل حيّة، تُشعل الذاكرة وتوقظ الضمائر.