الثورة – مها دياب:
في زمن تتسارع فيه التقنيات ويتوسع فيه تأثير المنصات الرقمية، بات الخطاب الإلكتروني يشكل قوة مؤثرة في تشكيل الرأي العام، سلباً وإيجاباً، وبين يدي هذه القوة تقع مسؤولية مجتمعية عظمى أن نختار ما يبني لا ما يهدم، وأن نرفع من شأن الكلمة التي تصلح لا تلك التي تحرض، لأن التعايش بين مكونات المجتمع السوري ليس خياراً ظرفياً، بل هو شرط للاستقرار، وضمان للأمان والكرامة الجماعية.
ومن هنا، تتعاظم مسؤوليات القانون في حماية الحق، والدين في تهذيب النفس، والتربية في ترسيخ القيم، لمواجهة موجات التجييش الطائفي التي تهدد سلامنا الاجتماعي..
قانون يلاحق المحرضين
وفي هذا السياق يقول المحامي فراس حميدو لـ”الثورة”: إن ما جرى يمثل انفجاراً ممنهجاً في التحريض الطائفي، لا يمكن اعتباره مجرد تفاعل عشوائي، بل هو فعل مدروس يستهدف النسيج الاجتماعي السوري في لحظة دقيقة من تاريخ البلاد.
ويؤكد أن التحليل القانوني لهذا النوع من الخطاب يكشف عن جريمة مكتملة الأركان وفقاً لقانون الجرائم الإلكترونية، خاصة حين يكون التحريض موجهاً ضد فئات دينية أو طائفية بهدف إثارة الفتنة أو زعزعة الاستقرار.. فوجود أكثر من 100 ألف تغريدة مصدرها حسابات وهمية خارج سوريا يشير إلى نشاط منسق عابر للحدود، يرقى إلى مستوى الجريمة المنظمة، ويشدد على أن الاستهداف المباشر للأقليات الدينية لا يمس فقط هذه الفئات، بل يهدد وحدة المجتمع السوري بأكمله، ويعيد إنتاج آليات الكراهية التي عانى منها السوريون خلال سنوات الحرب الطويلة، ولابد من تحرك قضائي عاجل لتوثيق هذه الانتهاكات ومساءلة من يقف وراءها.
كما أكد المحامي حميدو أنه بالإضافة للمحاسبة القانونية يجب إطلاق حملة وطنية شاملة لمواجهة خطاب الكراهية، تبدأ من المدارس والجامعات، وتصل إلى المنصات الإعلامية الرسمية والخاصة، بحيث يعاد ترسيخ قيم التعددية والاحترام المتبادل، ويرى أن الرد على هذه الحملات يجب أن لا يكون فقط بمحاسبة المحرضين، بل ببناء خطاب مضاد يعيد الاعتبار للهوية السورية الجامعة، ويفشل محاولات التفتيت التي تتغذى على الطائفية والانقسام.
ونوه بأن سوريا اليوم بحاجة إلى يقظة قانونية وأخلاقية، لأن الحرب الجديدة لم تعد تخاض بالسلاح، بل بالكلمات المسمومة التي تبث في الفضاء الرقمي، وتستهدف الضمير الجمعي قبل أن تستهدف الجغرافيا.. ومن هنا يكمن دور القانون ليس كأداة ردع فقط، بل كركيزة لإعادة بناء الثقة المجتمعية عبر حماية الحقوق وتجريم الكراهية.
دين يرفض الفتنة
وفي تصريح لخطيب جامع عين حور الشيخ حسين مرعي، قال: إن ما نشهده اليوم من حملات إلكترونية تحريضية لا يمت إلى الدين بصلة، بل هو إفساد في الأرض يراد به تمزيق وحدة المجتمع السوري وتحويل التنوع إلى صراع.
فالإسلام الذي نعتنقه لا يرضى بالكراهية، ولا يقبل أن تستخدم المنصات الرقمية لتأجيج الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، والتجييش الطائفي هو خيانة للأمانة الدينية والوطنية، لأن الكلمة في الإسلام مسؤولية، كما جاء في قوله تعالى: “ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”.
ويرى أن هؤلاء المحرضين لا يخدمون إلا أعداء الأمة، ويعملون على تفتيت ما تبقى من نسيجها الأخلاقي والاجتماعي، وأن الرد لا يكون بالصمت، بل بخطاب ديني عقلاني يعيد الاعتبار لقيم التسامح، ويذكر الناس أن الاختلاف رحمة لا لعنة، وأن التعايش بين أبناء المجتمع الواحد هو واجب شرعي لا مجرد تسامح اجتماعي.
ويشدد الشيخ مرعي على أن سوريا كانت ولاتزال نموذجاً للعيش المشترك، وأن ما يبث من سموم طائفية عبر الحسابات الوهمية هو محاولة لتشويه هذا النموذج الذي عاش عليه السوريون لقرون، ومنابر الدين يجب أن تكون جسوراً للمحبة، وأن العلماء مطالبون بالقيام بدورهم في توعية الناس وتحذيرهم من الانجرار وراء الروايات المفبركة التي تستهدف طوائف بعينها.
وختم قوله بالتأكيد على أن واجب الخطاب الديني اليوم هو بناء حصانة اجتماعية قوامها الاحترام المتبادل، والوعي بمخاطر التحريض، والتذكير بأن الوطن لا يبنى بالكراهية، بل بالمحبة، والعدل، والنية الخالصة في الإصلاح، لأن مواجهة الفتنة الطائفية ليست مسؤولية فردية، بل تكليف ديني وأخلاقي جماعي.
تربية تحصن الأجيال
وفي هذا السياق ترى الموجهة التربوية وصال العلي أن التجييش الإلكتروني الطائفي يعد تهديداً مباشراً للسلام والأمان المجتمعي، ويجب مواجهته عبر منظومة تربوية متكاملة، لأن الخطاب التحريضي لا يمر من دون أثر، بل يرسخ انقسامات نفسية وسلوكية في نفوس الأطفال واليافعين، ليتحولوا من ضحايا إلى ناقلين للكراهية.
وتؤكد على أن التربية يجب أن تكون خط الدفاع الأول، من خلال إدماج مفاهيم العدالة والمواطنة والتنوع في المناهج الدراسية، مشددة على أهمية تدريب المعلمين على تعزيز التفكير النقدي والذكاء العاطفي، وتمكين الطلاب من التمييز بين الحقيقة والتضليل، من أجل أن تكون البيئة المدرسية حاضنة لقيم التعددية، وترسخ الانتماء الوطني، وتمنع تسلل الخطاب الإقصائي إلى عقل الطفل الذي قد يصبح مشروع انقسام في المستقبل إذا ترك بلا حصانة معرفية ونفسية.
وتؤكد العلي أن دور الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني متكامل في حماية الجيل الجديد من سموم الكراهية الرقمية، وأن البرامج اللا صفية تمثل مساحة استراتيجية لتعزيز الحوار، وتفكيك النزعات الطائفية، وزرع ثقافة التفاهم والقبول بالآخر، وتشدد على أن التربية لا تقتصر على الكتب والمناهج، بل تشمل أيضاً اللغة اليومية التي يسمعها الطفل في المنزل وعلى المنصات وفي الإعلام وفي محيطه.
وترى أن الطريق نحو تحصين المجتمع يبدأ من الطفل، الذي- إن تعلم احترام الآخر، والتمييز بين التضليل والحقيقة، ليصبح مستقبلاً مواطناً مسؤولاً يصعب التلاعب به أو دفعه نحو التطرف، وهنا يكمن جوهر المواجهة التربوية للتوجيه نحو بناء عقل ناقد، وقلب متسامح، وشخصية تؤمن أن التعددية لا تهدد أحداً ، بل تغني الجميع.
مواجهة واعية
ختاماً.. نؤكد أن المناعة المجتمعية لا تبنى في وجه التجييش الطائفي بالاستنكار العابر، بل بتكاتف حقيقي بين القانون الذي يطارد أدوات التحريض، والدين الذي يسمو بالأخلاق ويوجه الخطاب نحو الحكمة، والتربية التي تزرع الوعي وتحصّن الأجيال من السقوط في فخ الكراهية.
فالمجتمعات التي تدرك خطورة التحريض لا تنتظر اندلاع الفتنة لترد، بل تبادر إلى إخمادها عبر تكوين ضمير جمعي يحترم التعدد، ويتعامل مع الاختلاف كثراء لا تهديد.. وسوريا بتاريخها في العيش المشترك، تملك القدرة على خلق خطاب وطني جديد ينقذ الكلمة من العبث، ويعيد لها مكانتها كجسر للمحبة والتلاقي، لا خندقاً للفرقة والانقسام.