الثورة – رفاه نيوف:
لم تكن الحرائق التي نشبت في محافظتي اللاذقية وطرطوس مفاجئة، فغاباتنا في مهب الحرائق منذ عقد من الزمن أو أكثر، ولم نحسن إيقافها ولا الحد من انتشارها، رغم اللجان العلمية المشكلة من ذوي الخبرة والاختصاص التي قدمت الاقتراحات المهمة، والتي كان يجب أن توضع حينها موضع التنفيذ.. عشرات التحقيقات الصحفية، جميعها لم تلق الآذان الصاغية.
واليوم بعد خسارتنا الفادحة لآلاف الهكتارات من ثروتنا الحراجية التي تحولت لرماد، ما هي الإجراءات السريعة الواجب اتخاذها، وما هي أهم الوسائل المستخدمة في إطفاء الحرائق، وهل نملك وسائل حديثة، وما هي الصعوبات التي تواجه المعنيين في الحراج، وكيف يمكننا إدارة المواقع المحروقة من جديد؟
أسباب عديدة
مدير فرع هيئة إدارة وحماية أملاك الدولة والحراج في طرطوس مضر حرفوش أكد لصحيفة الثورة أن أسباب نشوب الحرائق متعددة، منها ما هو ناتج عن الإهمال، ومنها ينتج عن شرارة كهربائية من الشبكات، وبعضها من رمي أعقاب السجائر على الطرق العامة، إذ تشتعل الأعشاب الموجودة على طرفي الطريق، ومنها يمتد الحريق للأراضي المجاورة زراعية كانت أم حراجية، ومنها ما هو مفتعل.
وأوضح أن معظم الحرائق في محافظة طرطوس سببها تحريق المخلفات في الأراضي الزراعية، وامتداد النيران إلى المواقع الحراجية المجاورة.
وأشار حرفوش إلى أنه وللأسباب الأنفة الذكر تصدرت الحرائق الزراعية المشهد في محافظة طرطوس، إذ بلغت منذ بداية العام وحتى اليوم 160 حريقاً زراعياً، التهم مساحة 189 دونماً، إضافة لتسجيل 36 حريقاً حراجياً أتت على مساحة حوالي 171 دونماً من الأراضي الحراجية.
مسؤولية جماعية
وبين حرفوش أن مسؤولية إطفاء الحرائق تقع على عاتق جميع الجهات العامة، والمجتمع المحلي والأهلي، وتوجد جهات متخصصة في هذا المجال، ومنها دائرة الحراج والدفاع المدني الشريك الأساسي بإطفاء الحرائق، بالإضافة لمشاركة مديرية الخدمات الفنية والبلديات بالآليات الثقيلة (التركسات)، لعزل مواقع الحرائق ومنع امتدادها، وكذلك مديرية استصلاح الأراضي وتطوير التشجير المثمر.
يعترف حرفوش بأن المديرية تأخرت بتنفيذ خطة تعزيل الطرق الحراجية، وشق طرق جديدة ضمن الخطة الموضوعة لهذا العام والبالغة تعزيل 298 كم وشق 10,8 كم، وعزا حرفوش التأخر في تنفيذ الخطة إلى تأخر التمويل وقلة المحروقات، موضحاً أن قانون الحراج يجرم مرتكبي الحرائق المفتعلة، من خلال عقوبات شديدة ورادعة بحقهم.
إدخال تقنيات جديدة
ويرى حرفوش أن أساليب مكافحة الحرائق ما زالت تقليدية ولا تواكب التطورات، وبالتالي تسهم بالتأخر في السيطرة على الحرائق وامتدادها لمساحات كبيرة، وبيّن أن لدى مديرية الحراج حالياً توجهاً لإعادة هيكلة منظومة الإطفاء، بالتشارك مع الدفاع المدني، وإدخال تقنيات جديدة، مثل استخدام الطيران المروحي والشراعي، وطائرات الدرون للمراقبة والمشاركة في إطفاء الحرائق.
ولفت إلى أن عمل إطفاء الحرائق الحراجية هوعمل متخصص جداً يحتاج إلى خبرة وطريقة عمل مختلفة، وعلينا نشر ثقافة النهج التشاركي في مجال إخماد الحرائق، لأنها مهمة وطنية تقع على عاتق المجتمع ككل.
نقص العمالة
ومن أهم الصعوبات التي واجهت مديرية حراج طرطوسن كما أكد حرفوش، نقص العمالة الكبير، الناتج عن تسريح عدد من الموظفين العاملين في مجال إطفاء الحرائق والمراقبة وحراسة المواقع الحراجية، إضافة إلى نقص المحروقات، وتأخر التمويل لهذا العام، وكثرة أعطال الآليات المستخدمة في إخماد الحرائق التابعة لدائرة الحراج، ونقص في أدوات العمل (مضخات، خراطيم…).
وصلنا لمرحلة العجز
صحيفة الثورة سألت أستاذ البيئة وحماية الغابات في قسم الحراج والبيئة بكلية الزراعة بجامعة اللاذقية الدكتور محمود علي، عمّا إذا كنا وصلنا لمرحلة العجز، أمام الحفاظ على ثروتنا الحراجية فأكد أن السياسات السابقة أوصلتنا لمرحلة العجز فعلاً، إذ إننا لم نُعِد النظر في خططنا، ولم نؤمن الموارد البشرية والمادية اللازمة لإدارة وحماية وصيانة ما تبقى من هذه الموارد الطبيعية التي تقدم لنا الكثير، ونقدم لها القليل.
وأشار د. علي إلى أن السياسات الحراجية السابقة، وغياب الخطط الدفاعية من قبل النظام البائد، وخاصة خلال الفترة 2020- 2024، أوصلتنا إلى مرحلة العجز في مواجهة الحرائق والحد منها، وكانت الذرائع على الدوام شح الإمكانات، لكن الواقع كان “شح الإرادة والكفاءة”، والدليل على ذلك هو كم الموارد الضخمة والجهود الجبارة التي خصصت لإخماد حريق مشقيتا عام 2023 مثلاً، والتي لو خصصت لتنفيذ الإجراءات الوقائية المناسبة لكانت كافية لتحصين غابات المنطقة الساحلية ضد الحرائق، وإدارتها وجعلها في مصاف غابات الدول الأوروبية.
خطوات إسعافية
وعن الخطوات الإسعافية الواجب اتخاذها اليوم، يؤكد د. علي أنه لا بد من اتخاذ بعض الإجراءات الفعالة لحماية بقايا غاباتنا، ومساعدة المحروق منها على العودة للحياة، ولو أن أمر عودتها إلى سابق عهدها، يحتاج إلى عقود، فالإجراءات الوقائية التي اتخذت في السابق كانت قاصرة وتسببت بزوال غاباتنا، وبالتالي لا بد من إعادة النظر في هذه الإجراءات إذا أريد للبقايا القليلة المتناثرة الاستمرار.
وأشار إلى أننا كثيراً ما نسمع من المعنيين بإدارة الحرائق أن عمليات الإخماد معقدة وصعبة بسبب عدم إمكانية الوصول إلى المواقع المحروقة نظراً لتعقيد تضاريسها وغياب الطرق، وطبيعة الغطاء النباتي (غالباً مخروطيات) الحساس في أغلبيته للحرائق، وإلى ما هنالك من معوقات، بالتالي لا بد من شق ما يكفي من طرق لتسهيل وصول آليات وفرق الإخماد إلى مواقع النيران بالسرعة والسهولة الكافيتين، إضافة لشق خطوط نار لإعاقة تقدم النيران في حال اندلاعها وتسهيل السيطرة عليها، وتحديث أسطول الإطفاء وتوسيعه ليتمكن القائمون على عمليات الإخماد من إنجاز المهمة بالسرعة والكفاءة الضروريتين، إضافة إلى تجهيز فرق الإخماد بمعدات الإخماد الفردية وتجهيز هذه الفرق بوسائل الحماية الفردية التي تضمن سلامة أفرادها.
عقد شراكات واتفاقيات
ودعا د. علي لعقد شراكات واتفاقيات مع بعض الدول للمساعدة بإخماد الحرائق، وذلك بعد الانفتاح الأوروبي والتركي على سوريا للمساعدة في إخماد النيران، وخاصة أن هذه الدول تمتلك أساطيل جوية متطورة لإخماد الحرائق، وستكون منفتحة للتعاون، لأن الآثار السلبية لزوال الغابات ليست موضعية، بل تنال دول الجوار بعضاً منها.
كما لا بد من التعامل مع المواقع المحروقة بطرق علمية بعد دراسة كل موقع بشكل مستقل وتحديد الإجراءات الواجب اتخاذها، وتنفيذ هذه الإجراءات بالسرعة الممكنة.
وشدّد د. علي على ضرورة وضع خطة علمية مدروسة لإدارة المواقع الحراجية المحروقة بما يضمن عودتها أفضل من السابق.
ويجب قطع الأشجار المحروقة من فوق سطح الأرض وسحبها من المواقع بالسرعة الممكنة بطرق تضمن الحد الأدنى من تحريك التربة لتقليل انجراف هذه الجذوع، إضافة لقيمتها الاقتصادية لو سحبت، فهي في حال عدم سحبها سوف تشكل بؤراً للأمراض والحشرات لسنين طويلة لأن تحلل الجذوع يحتاج عقوداً، كما أنها ستتشابك في المستقبل مع الغطاء النباتي الذي يعود بقوة بعد الحريق، وعندما يتكرر الحريق مستقبلاً في الموقع نفسه، وكثيراً ما تتكرر الحرائق على الموقع نفسه على فترات زمنية متباينة، سيكون إخماده بالوسائل المتاحة لدينا غير ممكن بسبب الطاقة العالية جداً التي تنتج عن احتراقه، وضعف (نفاذية) الماء (المستخدم في الإطفاء) ضمن الخشب الميت، وبالتالي ستستمر النيران لأيام طويلة في المكان نفسه، وسوف تحترق المادة العضوية ضمن التربة السطحية وتُقتل الأحياء فيها وتصبح أكثر حساسية للانجراف المطري والريحي، ويمكن سؤال عمال الإخماد الذين تعاملوا في السابق مع هذا النوع من الحرائق.