مطاعم المزة.. نكهات باهظة في مدينة تتعافى ببطء

الثورة – تحقيق سعاد زاهر:

منذ سنوات ليست ببعيدة، كانت المطاعم السورية تعج بالزوار، لم يكن ارتيادها حكراً على الميسورين، بل كان مشهد الموظف البسيط وعائلته على طاولة مليئة بالمقبلات والمشاوي أمراً عادياً، لكن الحرب اجتاحت كل شيء، حتى مائدة الطعام.. تغيّرت الوجبات، غابت النكهات، وارتفعت الأسعار حتى بات ارتياد المطاعم رفاهية مؤلمة.

ومع بوادر تعافٍ اقتصادي نسبي، يطفو على السطح سؤال جوهري: هل تعود المطاعم إلى نبضها الأول؟ وهل يمكن للمطبخ السوري أن يتنفس من جديد بعد كل ما فُقد؟

الضيافة في زمن الوفرة

قبل اندلاع الأحداث في سوريا، كانت المطاعم تشهد إقبالاً كثيفاً يتجاوز 90 بالمئة من المواطنين، المواد الأولية كانت متوفرة، والأطباق متنوعة، والضيافة عنوان للمشهد السوري، الموظفون أنفسهم كانوا يرتادون المطاعم بلا تردد، حتى باتت جزءاً من حياة الناس اليومية.

لكن سنوات الحرب قلبت المعادلة رأساً على عقب، فبحسب حسين أسود، المشرف في أحد المطاعم على أوتوستراد المزة: شهدت المطاعم السورية تراجعاً هائلاً في أعداد الزوار، واختفاء تدريجياً للعديد من الأطباق بسبب صعوبات الاستيراد وتوقف زراعة بعض المحاصيل في المناطق المتضررة.

تبدلات وتكاليف مرهقة

انقطاع المواد الأساسية، ولا سيما تلك الخاصة بالأطباق الغربية والبذور المستوردة، أدى إلى تغيّر شكل ومضمون الكثير من الأطباق، فضلاً عن ارتفاع التكلفة بشكل كبير، ففنجان القهوة، صار بـ22 ألفاً دون احتساب الضريبة التي تبلغ 11.5 بالمئة.

كل هذه التكاليف انعكست على الزبون بشكل مباشر، فالموظف الذي كان راتبه يعادل قرابة 250 دولاراً، ويستطيع تناول الطعام في المطاعم، بات يتقاضى بين 300 و400 ألف ليرة، قبل زيادة الرواتب الأخيرة، وهو مبلغ قد لا يكفي إلا لوجبة واحدة في الشهر، ما أدى إلى تقليص عدد الزبائن بدرجة ملحوظة.

من قلب التجربة

من جهة أخرى، تُقدّم هداية الصالح، مدير مطعم إيطالي في منطقة المزة، وجهة نظر مختلفة من قلب التجربة اليومية، فتقول: “نحن مطعمنا غربي أو إيطالي، لكن قد يأتي شخص من خارج البلد، فنقدّم له الطعام الذي يريده، حالياً الطلب على الغربي، لكن المغتربين يريدون أطعمة شرقية، طبخا قديما، ونحن نقدّمه لهم.

وتضيف: عندما ننفّذ رغبة الزبون، يعود إلينا باستمرار، طبعاً الزبون الدائم له الأولوية، وهناك أناس يأتون خصيصاً من أجل النرجيلة.

وتوضح الصالح، المواد كلفتها غالية، ومن الضروري أن نتعب على أصناف الأطعمة التي نقدّمها حتى نترك سمعة جيدة لدى الزبائن، فهاجسنا الدائم هو تقديم أفضل الأنواع، ولا أستطيع النزول بالمستوى خاصة أننا في مرحلة تجريبية، حتى إذا طلب أحدهم طبقاً غير موجود في القائمة، فسأحضّره.

وتشرح: تكلفة عائلة كاملة بين 800 ألف ومليون ليرة، والمعاناة مرتبطة بالغلاء. وتشير إلى أن الإقبال ازداد بعد التحرير، خاصة في المساء، بفضل التراس الواسع للمطعم المطل على منطقة المزة، فالأجواء الليلية جميلة، والإقبال الخارجي كبير لأننا نفتح 24 ساعة، لكننا نأمل بالمراعاة في الأسعار والخدمات والكهرباء، وتقليل كلفة المواد حتى نخفّض كلفة الطبق.

وبحسب الصالح، تتوزع نسبة الزوار في مطعمها كالتالي: 50 بالمئة سوريون محليون 25 بالمئة سوريون مغتربون 25 بالمئة سياح عرب.

الهجرة وخسارة الخبرات

المشكلة الأخرى التي تطرق إليها حسين أسود، تتعلق باليد العاملة، فقد هاجر أكثر من 90 بالمئة من العمالة المدربة خارج البلاد، وأصبحت المطاعم مضطرة إلى استقطاب عمال بلا خبرة تُدرّبهم من الصفر، لكن كثيرين منهم يسافرون فور اكتسابهم المهارات.

يقول: “أحد أصدقائي بعد تدريبه سافر إلى مصر ويعمل اليوم هناك في مطعم”، رغم أن الرواتب في المطاعم تراوح بين مليون ومليوني ليرة، إلا أنها لا تفي بمتطلبات المعيشة من سكن ومواصلات.. يضاف إلى ذلك قلة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والغاز، ما يرفع من تكلفة التشغيل ويضاعف من سعر الأطباق.

مؤشرات خجولة للتعافي

رغم كل ذلك، يلاحظ حسين أسود بوادر تعافٍ بدأت بالظهور مؤخراً، مع تحرير بعض المناطق وعودة تدفق بعض المواد الغذائية، وتوفر الفروج واللحوم الباردة والفواكه، وانخفاض أسعار الخضار والضرائب نسبياً، ما ساهم في تخفيف عبء التكلفة على أصحاب المطاعم.

يشير أسود إلى أن المطاعم في أوتوستراد المزة باتت تعمل حتى الثالثة صباحاً، وهناك وجوه جديدة بدأت ترتاد المكان، ما يعكس تحسناً تدريجياً في المزاج العام، لكنه يشدد على أن غياب الكفاءات في قطاع الضيافة ما زال عائقاً كبيراً أمام جودة الخدمة واستدامة التعافي، فالرفاهية لا يقدر عليها الجميع.اليوم، تكلّف وجبة عشاء لعائلة من شخصين في مطعم متوسط حوالي مليون ليرة سورية، فيما تصل كلفة الفطور إلى 75 ألفاً للشخص الواحد، تشمل هذه الوجبة فطوراً شرقياً متنوعاً.. زيتون، فطائر، فتة.. ومع ذلك، فإن قلة “البقشيش” وصعوبة تأمين كادر ملتزم يجعل الخدمة تواجه تحديات مستمرة.

رأي المغتربين

يقول أحد المغتربين: الضيافة دافئة، لكن الإبداع غائب، هذا ما قاله بكري زين الدين”، وهو ناشط مدني، عاد مؤخراً من تركيا بعد سنوات من الإقامة، حيث قدّم مقاربة بين المطاعم السورية ونظيراتها في الخارج. فأثنى على حسن الضيافة والاستقبال وكرم التقديم في دمشق، لكنه يرى أن الإبداع في الطهو غائب، والمذاقات متشابهة، والمنيو بات مملاً وثابتاً.ويضيف بكري: “اشتغلت في مطعم تركي في عنتاب، وهناك يتم تجديد الأطباق باستمرار، وتجربة النكهات متنوعة، فيما بدمشق لا يوجد تنويع ولا مغامرة في تقديم أطباق جديدة”.كما يرى أن مطاعم العاصمة يجب أن تعكس تنوع المطابخ العالمية، وتستقطب السائح بتجربة فريدة، لا بتكرار ما هو موجود في مطابخ العالم. ويؤكد: “لن يأتي سائح إيطالي إلى دمشق ليتناول بيتزا، بل ليجرب الطبخ المنزلي السوري، وهذا غائب للأسف”.

توزيع نسب الزوار

يشير أسود إلى أن الزبائن يتوزعون حالياً بنسبة: 70 بالمئة سوريين، و25 بالمئة خليجيين، و5 بالمئة أجانب.وهو يرى أن المطاعم جاهزة لاستقبال السائح الأجنبي من حيث تنوع الأطباق، لكن ما ينقص هو التطوير البنيوي والتجهيزات، إلى جانب ضرورة التخفيف من الضرائب وتحسين البنية التحتية، لاسيما الكهرباء والوقود.
ما الذي يمكن فعله؟لتحقيق نهضة حقيقية في قطاع المطاعم، يرى القائمون على هذا القطاع أن المطلوب من الجهات المعنية ما يلي:

تخفيف الضرائب عن المطاعم.

السماح بالترميم والتزيين دون عراقيل.

تحسين التغذية الكهربائية وتوفير الوقود بأسعار مدعومة.

دعم التنوع الغذائي وإدخال مطابخ عالمية دون إهمال المطبخ السوري الأصيل.

دعم اليد العاملة وتوفير بيئة مستقرة للعمل.

يحتاج إلى فرصة

النكهة السورية مازالت حاضرة، لكن المطبخ يئنّ من ويلات الحرب، كما يئنّ الزبون من غلاء الأسعار.في قلب كل مطعم دمشقي، هناك ذاكرة مشتركة، لقاءات، ضحكات، نكهات تعني أكثر من مجرد طعام.إن إنقاذ قطاع المطاعم لا يتطلب وصفة سرية، بل قراراً بإعادة بناء الثقة، وتحفيز الاقتصاد المحلي، والاستثمار في الطهاة، والخروج من قوائم الطعام الثابتة نحو إبداع جديد يحمل اسم سوريا إلى طاولات العالم.

آخر الأخبار
مستشفى خيري في قلب حلب.. مبادرة إنسانية تعيد الأمل لآلاف المرضى ضمن برنامج "حاضنة الأعمال" اختيار المشاريع الأولى للرواد باراك: ملتزمون بمساعي تحقيق السلام والازدهار في سوريا الشيباني يبحث مع السفير الصيني المستجدات الإقليمية والعلاقات الثنائية البدء بترميم مدارس متضررة في درعا بدء قبول طلبات الاعتراض على نتائج شهادة التعليم الأساسي وقف استيراد الفروج المجمد.. مدير الدواجن يدعو لمراقبة السوق تعزيز العلاقات التجارية مع مجلس الأعمال السوري- الأميركي وزير المالية يطمئن.. الخبير عمر الحاج لـ"الثورة": تنشيط قطاع الكهرباء يحتاج تكاليف كبيرة إعادة تأهيل ست آبار.. وإزالة تعديات على خطوط المياه بدرعا مطاعم المزة.. نكهات باهظة في مدينة تتعافى ببطء بداية تعاف ونقطة قوة تسجل للحكومة.. جمعة حجازي لـ "الثورة": تحويل المحافظات المهمشة اقتصادياً لمراكز... "أمية" ينفض الغبار بانطلاقة جديدة.. مصطفى خطاب: نراهن على الجودة والسعر معاً ارتفاع الأسعار يودي بزيادة الرواتب في مهب الريح موازنة العام 2026.. رؤية مختلفة عن سابقاتها التمديد الحكمي في عقود الإيجار.. الأكثر أثارة للجدل مشروع القاضي طارق برنجكجي يعيد التوازن التشريعي مشاريع تركيب وصيانة لتعزيز موثوقية الكهرباء بريف دمشق قرية اليعقوبية تحيي طقوس عيد القديسة آنا بريف إدلب قرار جديد يضع التمريض على مسار مهني صارم ويحمي حق المريض وسوريا محكومة بالوحدة والتعايش السلمي بعيداً عن مشاريع التقسيم