الثورة – حسين صقر:
عندما نلجّ دهاليز الذاكرة ونطوف على أجنحة الزمن تمرّ على شريط الأيام صور كثيرة ومفاصل حياتية عشناها بصعوباتها، بحلوها ومرها، وهو ما يجعلنا نتوقف قليلاً لنسأل ماذا رأى جيل هذه الأيام مما رأيناه، وماذا رأينا نحن مما رآه آباؤنا وأخوتنا الكبار؟! لنرى أنه مهما اشتدت صعوبات اليوم فهي لا تقارن بيوم حصيد تحت عين الشمس أو نقل المحاصيل إلى البيادر، والوقوف أياماً على النوارج لدرسها، ثم تذريتها على الوابور، أو المذراة لفرز القمح عن التبن، ثم طحن الدقيق، أو حراثة يوم أو نكش وتعشيب الخضراوات، أو حتى نقل الحطب على الأكتاف والخبز على التنور وعصر المشمش وإلى آخره، أو أي أعمال مجهدة أخرى في المصانع والمعامل مع عدم وجود الآلات.
ما دعا لذلك الرجوع والسفر عبر الزمن وإلى الخوالي عدة أسباب، قد لا يكون الحنين إلى تلك الأيام، إذ لا يمكن لعاقل أن يتوق لأوقات الشقاء والتعب، بعد أن دخلت الكهرباء كل منزل، ومعها جميع الأدوات التي تعمل على تلك التقنية، ومع وجود الهاتف النقال والأرضي والإنترنت والحاسب والتلفاز، ووجود السيارات والقطارات السريعة والحصادات والآلات الزراعية بكل أنواعها وأشكالها، لكن فقط نتوق إلى تلك الأيام لأنها أيام الخير والعطاء وراحة البال والفكر والتسامح، وعندما كان لكل شيء قيمته وأهميته وحاجته.
أما اليوم ومع وجود كل تلك التقنيات نرى أبناءنا ـ أعود وأكرر باستثناء سنوات الحرب العجاف ـ لا يعجبهم شيء، بل وقد يصل الأمر فيهم إلى معاتبتنا لأننا جئنا بهم إلى هذه الحياة، ولم نعاتب أهلنا من قبل.
عجلة الزمن دوران مستمر
لتسليط الضوء على الفرق بين الماضي والحاضر، تواصلت صحيفة الثورة مع الباحث التاريخي مرعي كحل، الذي أكد أن توفر كل شيء للطفل، أو الولد، أو البنت، من مأكل ومشرب ولباس ورفاهية قدر المستطاع، قد يجعله ملولاً، ونحن نتحدث طبعاً عن الأيام التي تكون فيها الظروف طبيعية، وترى الأولاد متذمرين منزعجين لا يعجبهم العجب، وكأن كل شيء عادٍ، أما في الظروف الاستثنائية فسوف ينعكس كل شيء سلباً، ليس على الولد وحسب، بل على الجميع، لكن بالنتيجة لكل زمان دولة ورجال، ولكل عصر وأوان ظروفه وإمكاناته وطقوسه وعاداته وتقلباته.
وقال كحل: لكن من عاصر جيل ما قبل الأربعينيات، واليوم جيل ما بعد الألفين يعيش صراع الأجيال الحقيقي، ولاسيما أنه اشترى بالفرنك والقرش، واليوم يدفع ثمن نفس السلعة آلاف الليرات، هذا من الناحية المادية، أما معنوياً فقد عاش أياماً صعبة عانى خلالها عدم وجود الكهرباء ولاسيما في القرى، وندرة وسائط النقل أو انعدامها في بعض الحالات، فضلاً عن العيش بالكفاف والقلة والقبول بأقل الحاجات، أضف إلى ذلك ممارسة الأعمال المجهدة والصعبة إلى جانب عائلته في المحال أو المستودعات إذا كان ابن مدينة، وفي الأراضي وعلى بيادر القرية وبين أشجارها وسنابل زرعها إذا كان من أبنائها.
وأضاف: أما جيل اليوم لو استثنينا سنوات الحرب المنصرمة، نرى أن جيل ما بعد الألفين أو الذي سبقه بعشر سنوات، توفرت له كل وسائل الراحة والرفاهية، ولم يعش أي ظروف صعبة، ويندرج ذلك على توفر الكهرباء والإنترنت والحاسوب، وركوب السيارات الخاصة، والسياحة والتنزه وأفضل اللباس وحرية الاختيار، في الوقت الذي لم يتوفر هذا كله أو سوى أجزاء منه لمن سبقهم.
وأوضح الباحث التاريخي، أحياناً نبرر لهذا الجيل، ذلك أن ما يمارسونه يندرج في إطار صراع الأجيال والبقاء، ولكن لا أجده أكثر من صراع للفناء والقضاء على كل ما هو جميل في حياتهم، بعد أن اختصروا واجباتهم الاجتماعية كلها برسالة على الهاتف، أو عبر تطبيقات التواصل ضاربين عرض الحائط بالقيم والعادات التي من شأنها تنمية وترسيخ العلاقات الاجتماعية، إذ يعد بعضهم ذلك نوعاً من التصالح مع الذات، في وقت لا يشكل ذلك سوى انطواء وابتعاد عن الواقع الذي نعيشه، مبررين لأنفسهم بأن الحياة تغيرت وبات الناس يبحثون عما هو مفيد، وكأن العلاقات مع الآخرين وصلات القربى أمر مضرّ.
وأشار إلى أنه في أحيان كثيرة يجنح هؤلاء إلى السلام الداخلي بعد أن رأوا ما رأوه من آثار كارثية للحرب التي دمرت الكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية، ومرت سنوات لم تبق ولم تذر، وهاهم اليوم يتفاءلون بسنوات قادمة ملأى بالتعافي والبناء وإعادة تأهيل الإنسان الذي ماتت فيه طيلة الفترة الماضية روح التفاني والعطاء، وبات قلقاً مما يجري حوله.
وختم كحل: إن هذا الصراع مستمر طالما تخفق القلوب في الصدور، وتجري الدماء في العروق، ولكن العاقل وحده من يدرك أن عجلة الزمن مستمرة في الدوران، ولا شيء يستحق الوقوف عنده، ولا شيء دائم، لا الفرح مستمر، ولا الحزن، لا التعب والشقاء، ولا الراحة، لا الأمن والسلام، ولا الحروب والكوارث والمحن، إن كل شيء إلى زوال، لأن طبيعة الحياة والكون هي كذلك.