الثورة – حسين روماني:
فضيحة تهزّ بيت قاضٍ في دمشق أواخر القرن التاسع عشر، لتتحول إلى مرآة تعكس وجهاً آخر للمدينة ولزمنها، في “طقوس الإشارات والتحولات 1994″، يقدّم الراحل المسرحي السوري سعد الله ونوس نصاً يشتبك فيه الجسد بالتقاليد، والعائلة بالمجتمع، والفضيحة بالتحرر، ليست الحكاية مجرد دراما اجتماعية تقليدية، بل مساءلة جذرية لبنى كاملة ظلّت تتحكم في مصائر الأفراد، وتعيد إنتاج نفسها جيلاً بعد جيل. تقع الأحداث في دمشق وهي على عتبة قرن جديد، تتشابك مصائر شخصيات أسيرة لأعراف صارمة: قاضٍ ينهار أمام ضعفه، امرأة تُدعى “مؤمنة” تقرر كسر الطوق علناً، ومثقف اسمه “عبد الله” يتردّد بين وعيه وعجزه، على هذا المسرح تتحرك الشخصيات كما لو كانت داخل طقس قديم، حيث كل فعل ينطوي على إشارة، وكل إشارة تقود إلى تحوّل.
أبرز ما يلفت في النص هو شخصية مؤمنة، التي تبدأ زوجة مطيعة في بيتها، وتنتهي امرأة تختار حريتها بوعي كامل، حتى لو كان ثمنها مواجهة المجتمع بفضيحة تهزّ مكانته، هنا يذهب ونوس إلى أبعد من حدود المأساة الفردية، ليجعل من الجسد مساحة مقاومة، ومن الفضيحة أداة لكشف النظام الأخلاقي الذي يضبط الناس بالخوف من العار أكثر مما يضبطهم بالقوانين.
النص يتوقف طويلاً عند التناقض بين الخطاب الأخلاقي المتشدد والسلوكيات الخفية التي تناقضه، القاضي الذي يُفترض أنه حامل لواء الفضيلة، يجد نفسه عالقاً في نزعات شخصية لا تقلّ ضعفاً عمّا يدينه علناً، في هذا التناقض، يقدّم ونوس صورة قاسية عن مجتمع يقمع رغباته في العلن، فيما يتركها تفور في الخفاء، لينكشف بذلك النفاق الذي يستبطنه الخطاب السائد.
لغة ونوس في هذه المسرحية تميل إلى الشعرية الكثيفة، لكنها لا تقع في الغموض، هي لغة تجعل القارئ والمشاهد يشعران أن ما يُعرض أمامهما ليس حكاية تخص دمشق وحدها، بل طقس يتكرر بأشكال مختلفة في مجتمعات عربية شتى، ولذلك بدا النص منذ صدوره استباقياً، كأنه يقرأ أزمة كامنة قبل أن تخرج إلى العلن. حين عُرضت “طقوس الإشارات والتحولات” على الخشبة، في دمشق أولاً ثم في بيروت وباريس، أحدثت صدى واسعاً، البعض رأى فيها خرقاً جريئاً للمحظورات، وآخرون اتهموا ونوس بالمبالغة، لكن النص، في كل الأحوال، أثبت أنه لايزال حيّاً، لأن أسئلته لم تُحسم بعد: أين يبدأ العيب وأين ينتهي؟ وما موقع المرأة بين الطاعة والتحرر؟ وأي دور للمثقف حين يفضّل الصمت؟
بعد أكثر من ربع قرن على كتابتها، لا تزال “طقوس الإشارات والتحولات” مرجعاً أساسياً لجيل من المسرحيين الشباب في سوريا والعالم العربي، يعودون إليها لا بوصفها مجرد نص كلاسيكي، بل باعتبارها درساً في الجرأة، ونموذجاً لكيف يمكن للمسرح أن يفتح أفقاً للتفكير في الحرية والجسد والعلاقة بالآخر، وهكذا يظلّ إرث الراحل سعد الله ونوس حاضراً، لا ككاتب مسرحي فقط، بل كشاهد على أننا “نحن محكومون بالأمل”.