الثورة – رانيا حكمت صقر:
لطالما سيطرت على شاشاتنا صورة نمطية واحدة، الرجل المحارب، التاجر، أو السياسي الذي يقود المشهد، فيما تقف المرأة إما كزينة، أو ككائن يحتاج إلى الحماية. لكن في زوايا أخرى من واقعنا، يكتب رجال آخرون سردية مختلفة تماماً، ليست قصة منقذ ينزل من برجه العاجي “إنقاذ” المرأة، بل قصة شريك يمد يده ليساعدها على الصعود إلى المنصة ذاتها، إنها فلسفة التمكين الحقيقية، إذ يصبح نجاح المرأة الفكري والدراسي ليس تهديداً للذكورة، بل هو مكسب للأسرة والمجتمع بأكمله، هذا التحول من “الوصاية” إلى “الشراكة الفكرية” هو أغلى هدية يمكن أن يقدمها الرجل للمرأة المثقفة اليوم.
تحول جذري في المفهوم
لقرون، حُصر دور الرجل في العديد من المجتمعات، وخاصة العربية، في دور “الحارس” أو “الوصي”، كان دوره هو تحديد مسارات الحياة، بما في ذلك التعليم والعمل، لكن المفهوم الحديث للتمكين يقوم على تفكيك هذه الفكرة، الرجل المتمكّن هو من لا يرى في علم المرأة وعقلها منافساً، بل يراهما رافداً لقوة الأسرة وازدهارها، هو من يستبدل كلمة “لا” بـ “كيف يمكنني مساعدتك؟”، هذا التحول ليس مجرد لفتة كريمة، بل هو استثمار في المستقبل. كان الأدب العربي ساحة لهذه المعركة الفكرية، في الروايات التقليدية، غالباً ما صُورت المرأة المثقفة على أنها متمردة أو تعيسة أو شاذة عن الطبيعة “الأنثوية”، يمكننا أن نرى آثار هذا التهميش في أعمال كثيرة، إذ كان التعليم بالنسبة للبطلات طريقاً محفوفاً بالمخاطر أو ينتهي بالعودة القسرية إلى “الحظيرة” الاجتماعية.
لكن كاتبات مثل “غادة السمان” و”ألفة الإدلبي” قدمن وجهاً آخر، قدمت غادة السمان في أعمالها مثل “كوابيس بيروت”، و”الجسد حقيبة سفر”، نماذج لنساء يفكرن ويشعرن ويقررن مصيرهن، متحديات البنى الاجتماعية، أما كتابات ألفة الإدلبي، فكشفت عن تعقيدات النفس الأنثوية وتوقها للمعرفة والحرية، مما وضع الرجل أمام مرآة تساؤله، إما أن يكون عائقاً أو يكون جسراً.
الرجل الحاضر
في هذا السياق، تصبح أي قصة دعم حقيقية فعلاً ثورياً يخترق الصورة النمطية، وإن حضور السيد الرئيس أحمد الشرع حفل تخرج عقيلته لم يكن مجرد حضور شكلي، إنه رسالة قوية وبصرية مفادها: “أنا هنا لأحتفل بإنجازك الفكري، أنا فخور بعلمك”، هذه الصورة، التي حلت محل صورة نمطية لأنوثة هشة تملأ الشاشات، وهي ما يحتاجه المجتمع لإعادة تعريف معنى القوة والأنوثة، القوة ليست هيكلا وحده، بل قوة العقل، والرجل القوي هو من يقف بفخر إلى جانب عقل المرأة.
كيف يكون الرجل شريكاً في التمكين الفكري؟
التمكين ليس شعاراً، بل هو ممارسة يومية، من خلال الدعم المعنوي والتشجيع على إكمال الدراسات العليا، المشاركة في النقاشات الفكرية، والاحتفاء بالرأي المختلف للمرأة.
أما المشاركة العملية فتكون بتقاسم الأعباء المنزلية، وتربية الأطفال بشكل عادل لخلق المساحة والوقت الكافي للمرأة للقراءة والبحث والإبداع، لا يمكن للمرأة أن تنتج فكرياً وهي غارقة في أعباء “مضاعفة”. وهي بحاجة أيضاً لمناصرة الدفاع عن حقها في العمل وفي التعبير عن آرائها في الأوساط الاجتماعية التي قد تنتقد خروجها عن النمط التقليدي، أيضاً خلق بيئة محفزة بدلاً من أن يكون سجناً، يصبح المنزل معمل أفكار، إذ يحترم الشريكان بعضهما فكرياً ويحفز كل منهما الآخر على النمو.
غياب صورة “المرأة التي تحمل كتاباً وترتدي نظارة” عن شاشاتنا حتى هو اعتراف صارخ بأزمة في أولوياتنا، لكن البداية تكون دائماً من الداخل، من المنزل، عندما يتحول الرجل من حاجز إلى حافز، ومن قيد إلى محرر لقدرات المرأة العقلية، فإنه لا يُمكّن المرأة وحسب، بل يُمكّن المجتمع بأسره، إنه يبني أسرة أكثر وعياً، وأكثر إنتاجية، وأكثر سعادة. في النهاية، الرجل الحقيقي ليس من يبني جداراً حول المرأة، بل من يساعدها على بناء جسور من المعرفة توصلها إلى العالم المنفتح، ويعبر هو عليها ومعها، يداً بيد، نحو مستقبل أكثر إشراقاً ورفاءً.