الثورة – أحمد صلال – باريس:
تواجهنا قصص القاصة نور مارتيني شفافيتها، وسلاستها، وسحر تعبيراتها، لتشكل جسراً من الإبداع يمتد من قلب سوريا، لتطرز لنا بشذا كلماتها أجمل القصص، وبتوهج الشمس المشرقة تروي لنا علاقاتها مع القصص، والتي انبثقت منذ سنوات كثيرة نداء حكاياتها، وأحلامها، وإبداعاتها في عالم الأدب الذي لا حدود له، فقد كتبت في العديد من الصحف السورية والعربية والمواقع الالكترونية التقتها “الثورة” وحاورتها في جوانبها الإبداعية الشتى فكان هذا الحوار..
– ماذا عن القصة الأولى، عن الشعلة الأولى، من أوقدها حتى استمرت إلى حد الآن؟
= لم تكن الومضة الأولى في حياتي الأدبية وليدة لحظة معيّنة، بل كانت نتيجة حتميّة لشغفي بالقراءة والمطالعة، إذ تحوّل الورق إلى أداةٍ للبوح والمكاشفة، ليتطوّر الأمر لاحقاً بعد امتلاكي لأدواتي الأدبية، واختياري للمسار الأدبي الذي أنشده، كتبت قصصاً عديدة في مرحلة المراهقة، غير أنّها ظلّت حبيسة الأدراج، ولكن مع دخولي الجامعة امتلكت الجرأة الكافية لعرض نتاجي الأدبي في المهرجان الأدبي الذي كان يقام في كلية الآداب بجامعة حلب، بشكل دوري، وعلى الرغم من دراستي للغة الإنكليزية إلا أن أعضاء الهيئة التدريسية في قسم اللغة العربية، أبدوا إعجاباً شديداً بلغة السّرد والصور المجازية في كتاباتي، فكانت أول قصة ألقيها على منبر كلية آداب هي الشعلة التي رسمت ملامح مسيرتي الأدبية.
– أزعم أن الحلقة الأضعف في قصصك هي المرأة، فهي ضحية التمييز العنصري والحاجة والتقاليد البالية، ما تعليقك؟
= دعني أخالفك في هذه القراءة، في الحقيقة أنَ شخصياتي النسائية كانت حالمة في بعض المواقع كحال بطلة القصة التي أطلقت اسمها على مجموعتي القصصية الثانية “إنها تمطر شمساً”، أو في قصة “السوسنة” على سبيل المثال، أما في “صهيل” فهي متمرّدة بشكل صارخٍ على المجتمع برمّته. الموضوع يعود ببساطة إلى زمن كتابة هذه الأعمال والتي كتبتها، قبل مرحلة تبلور الوعي الاجتماعي والسياسي، أما أعمالي الأدبية التي كتبتها في مرحلة ما بعد اندلاع الثورة فما زالت طيّ النسيان، لعدّة عوامل، أبرزها الظرف السياسي وما نجم عنه من شعور باللا جدوى، اليوم أفكّر في نشرها وحينها ستجد أنّ الشخصية النسائية المنكسرة تلاشت مع تلاشي الشعور بالهزيمة.
– هل يمكنك أن تحدثينا عن خصوصيات تعاملك مع سوريا في قصصك؟
= كتبت جميع قصصي المنشورة خلال مرحلة تواجدي في سوريا ولذلك فهي جميعها منسوجة من رحم الواقع المعاش في البلد، في تلك الحقبة، سوريا كانت حاضرة في سحر الطبيعة عندما تصف المكان، انكسار الشخصيات عندما تتطرّق إلى الظرف المعاش، البيئة الاجتماعية الدافئة عند نسج الحبكة القصصية والإحاطة بالتفاصيل الصغيرة للعلاقات الاجتماعية، سوريا حاضرة أيضاً في خصوصية التجارب التي يخوضها أبطال أعمالي القصصية، في أعمالي ستجد محطّة ترتاح فيها من تعبك فتسند ظهرك إلى جذع شجرة زيتون، ستباغتك رائحة الياسمين أو التمر حنّة على حين غرّة أثناء سيرك، ستقف سارحاً أمام سهولٍ يمتزج فيها الأخضر بالأصفر على مدّ النظر.
– مرجعيات قصصك التي لا تنضب متعددة، علمية، وطنية، اجتماعية وجغرافية، هل كنت على درجة من الوعي بهذه الفسيفساء؟
= بدأت القراءة في سن صغيرة، وأذكر أنني كنت كثيرة الاهتمام بالتفاصيل، وبسبب فضولي الطفولي من ناحية وطفولتي التي قضيتها في حي متعدد الثقافات والانتماءات والمشارب، منحني كلّ ذلك غنى في التجربة وتعدداً في المصادر، ولذلك أزعم أنني كنت على دراية بهذه الخصوصية، ولكنّه أمر لم أسع إليه، بل وجدتني محاطة بكل هذه التفاصيل بشكل عفوي، ولذلك أستطيع القول: إنّ الوعي لديّ بما وصفته بالفسيفساء جاء بشكل عفوي وغير انتقائي، هذا الوعي صقلته المطالعة والتجربة الحياتية في مرحلة لاحقة، إذ تعمّقت هذه المعارف وتبلورت أثناء المرحلة الجامعية، من حيث تنوّع المصادر وعمق الرؤية ووضوحها.
– هل يمكن أن تحدثينا عن لغتك القصصية؟
= يجد الكاتب نفسه عن غير قصد يعيد إنتاج ما قرأه، ويضيف إليه لمسته الخاصة، شخصياً كنت منبهرة باللغة والوصف في أدب الطفل الاسكندنافي، ولاحقاً بالأعمال الكلاسيكية الفرنسية والإنكليزية وكنت متأثّرة بهما في البداية، وهو أمر تداركته لاحقاً بعد قراءة الأدب السوري بشكل متمعّن، فأصبحت أرسم شخصياتي بوعي أدق ومعرفة لخصوصية الشخصية السورية، ولكنني لم أتمكّن من مجاراة المدرسة السورية في كتابة القصة الواقعية، أشتغل على الحالة النفسية والصراع النفسي للشخصية وأربطها بالبيئة والظرف الخارجي، ومع ذلك أحاول أن أنسج لغة أنيقة تريح المتلقّي، وأعتقد أن مفرداتي منتقاة بعناية، لأعطي المعنى الأدق بإيجاز شديد، وهو أمر محتوم حين يتعلّق الأمر بالقصة القصيرة، على عكس الرواية التي تمنحك هامشاً أكبر للاستعراض اللغوي.
– أنت والقصة توءمان تندرج هي في حنايا قلبك وتندرجين أنت بين ضلوعها، حدثينا عن تلك العلاقة؟
=القصة هي الومضة التي تنشلك من واقعك المظلم لتمنحك فرصة للعب على أوتار الخيال والحلم، منذ الطفولة كانت كتابة القصة هي الملاذ، فالبوح للورق يمنحك شعوراً بالحرّية لن تجده في مكان آخر أو عند شخص آخر، من هنا بدأت أتبنى هذا النهج في بناء شخصيتي، لقد أثّرت بي كتابة القصة كثيراً فمنحتني شخصيتي الأدبية والحياتية، وزوّدتني بالجرأة والمعرفة التي جعلتني أقدر على المواجهة والتحدّي بكل أشكاله، بما فيها تحدّي الذات، أما أنا فأعطيتها عصارة روحي، وكانت الصديق الصدوق الذي أودع عنده مدّخراتي، لم تخذلني القصة قط، وكانت تمدّ يدها لي بالعون كلّما ضاقت الدنيا في وجهي.
– لو تحدثينا عن تذكرة السفر الطفولية والمحطات الخيالية التي حطت فيها كاتبتنا عبر مسيرة الشوق والحنين؟
=كلّ ما ادّخرته من ذكريات في طفولتي، كان مرتبطاً بمدينتي إدلب، فعلى الرغم من إقامتي في حلب طيلة مرحلة الطفولة والمراهقة، غير أن مخيلتي ورؤاي كانت كلها مرتبطة ببيت الجدّ واجتماع العائلة وتحلّقها حول المدفأة في الليالي الشتوية، رائحة الخبز الطازج في الشوارع، موسم الزيتون الذي كان عيداً ثالثاُ في إدلب، كان أحبّ جزء في رحلة العودة إلى إدلب والخروج منها هو المساحات الخضراء من أشجار الزيتون على جانبي الطريق، ومشاعر الخذلان المرتبطة بغيابها عند المغادرة، ومشاعر الشوق لملاقاتها في رحلة الذهاب إليها، الحديقة العامة التي كنا نسميها “حديقة البطات” وحكايات جدي- رحمه الله- التي لا تنضب، كان دفء العائلة هو الفصل الأهم والذي غاب من حياتي كما هو حال كل الأسر السورية.
– من القاص البارع الذي استطاع أن يؤطر فن القصة القصيرة في عالم الأدب السوري؟
= أستطيع القول: إنني قرأت بشغف كلّ ما كتب في القصة السورية، والأسماء المظلومة في عالم القصة القصيرة السورية كثيرة جداً، فعلى سبيل المثال كان الفنان التشكيلي الراحل “فاتح المدرّس” كاتباً قصصياُ متميّزاً، وله قصة بعنوان “عود النعنع”، الأديبة الراحلة “ألفة عمر باشا الإدلبي” كانت لها مجموعة قصصية بعنوان “وداعاً دمشق”، أما الكاتب القصصي الذي أستطيع القول: إنّه شكّل حالة خاصة في الأدب السوري فهو “زكريا تامر”، لقد قرأت له في الطفولة البكّرة مجموعتين قصصيتين موجّهتين للطفل “لماذا حزنت العصافير”، و”حين سكت النهر”، ولكن “ولاحقاً قرأت أعماله كلّها ويكفي أنه كتب “دمشق الحرائق”، و”صهيل الجواد الأبيض” للقول: إنّه تربّع على عرش الإبداع في القصة السورية.