الثورة – همسة زغيب:
قدَّم الناقد السوري فادي جميل سيدو دراسة أدبية نقدية للقصة القصيرة “نصر” للكاتبة نجاح الدروبي ورد فيها: “عيون الناس حولها تُفتح وتُغلق، وهي وحيدة تجلس صامتة في زاوية الغرفة على سريرٍ داخل مستشفى تتأمَّل ما بقي من قدمها المبتورة الملفوفة بقماش أبيض.”.كانت “كرمل” ذات الأعوام العشرة تعتصر كمداً وحزناً، لكنَّها في الوقت ذاته تشهد ولادة جديدة تنمو فيها أسراب القطا، تُشعل جسدها ناراً.تحرق ذئاب البحر ثم تطير كفراشات من نور ترفض السقوط، السماء تستقبلها، الملائكة تضحك لها، الروضة تحتضن عائلتها نبع الحنان، تتذكَّر ساعة رمى صانعو الشر قنبلة حقدهم على والدها ووالدتها وأختها الصغيرة وانتشلوا قدمها، فإذا بها تنبت ألف شجرة وشجرة على أرض الأنبياء.”
مزج الخيال بالواقع
تعتبر القصة القصيرة “نصر” للكاتبة الدروبي واحدة من الأعمال الأدبية التي تمزج بين الخيال والواقع بطريقة تلامس المشاعر الإنسانية العميقة من خلال سرد مكثَّف وبناء شخصية فريدة، كما تسعى الكاتبة إلى تقديم رؤية نقدية للواقع المؤلم الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط، مستعينة بشخصية “كرمل” المُجسِّدة لقوة الصمود والتحدي.تملك القصة فيها مقومات الأدب الكبير كونها تحتوي على معانٍ وأبعاد رمزية تُجسد صراع الحياة والموت، والبحث عن بصيص الأمل وسط الدمار والخراب.من خلال تجسيدها لمعاناة “كرمل” تلقي الدروبي الضوء على الظروف القاسية التي تعاني منها الشخصيات نتيجة الحرب والدمار.يتشابك السرد مع وصف دقيق ومؤثر للألم الجسدي والنفسي، ولكنّه في الوقت ذاته يفتح نافذة للوقوف على دهشة التكيُّف والقدرة على النهوض من جديد، إذ تجسِّد القصة دعوة للتغيير وتجدُّد الأمل، وتنبثق الحياة مراراً من رماد المعاناة والهزيمة، لتصبح رمزاً لانتصار الروح البشرية أمام كل التحديات.
الشخصيات ودورها المحوري
تتألق القصة القصيرة “نصر” للكاتبة نجاح الدروبي بتقديمها لشخصيات متواضعة في عددها، لكنها غنية في أبعادها النفسية والرمزية، أبرز هذه الشخصيات هي “كرمل”، الطفلة ذات الأعوام العشرة، التي تعتبر مركز الثقل الدرامي للنص.كرمل تُمثِّل صورة الطفولة المدمرة بفعل الحروب، وجسدها الذي يفتقد جزءاً منه يعمل كرابط بين الماضي المؤلم والمستقبل المأمول، فقدانها لقدمها يرمز إلى الخسائر الفادحة التي تتركها النزاعات المسلحة على الأجساد والأرواح، فيما تأتي رؤيتها اللا محدودة في التأمل والتجدد كنقطة تحول إيجابي ترسم خريطة جديدة للأمل والمقاومة.الشخصيات الأخرى- وإن كانت حاضرة بطريقة غير مباشرة من خلال الذكريات والانطباعات، إلا أنها تلعب دوراً مهماً في تشكيل الخلفية النفسية لكرمل، والداها وأختها الصغيرة الذين لم يبقَ منهم سوى آثار ذاكرتهم، هم الباعث الأول للحنين والوحدة في حياتها، هذا الفقدان الكامل للأسرة يجبر “كرمل” على مواجهة الحياة بمعزل عن الدعم التقليدي للعائلة، ما يعمِّق شعورها بالمسؤولية الذاتية وإبراز وحدة الوجود المتصارع.”الملائكة والقطا والذئاب والفراشات”، وإن كانت عناصر مجازية، إلا أنها تتخذ أدواراً حيوية في بناء شخصية “كرمل” والسمو بها من حالة اليأس إلى حالة التمرُّد المبهج، تدل القطا والفراشات على الحس الداخلي بالحرية والانطلاق، فيما تُمثِّل الذئاب التحديات والمخاوف المعوقة لمسيرتها. هذه التوليفة من الشخصيات الرمزية تعمق مفهوم التحول النفسي، إذ يتحوَّل الألم إلى قوة دافعة نحو البناء والنهضة الشخصية.
رمزية القصة وعلاقتها بالواقع
تتجلى رمزية القصة القصيرة “نصر” في تبنيها لمجموعة من الرموز والإشارات العاكسة للواقع المأساوي الذي تعيشه الشخصيات، لكنها في ذات الوقت تحمل دلالات الأمل والانبعاث من جديد، فالقصّة تصور محنة “كرمل”، الطفلة التي تعاني من فقدان قدمها نتيجة عمل عدواني استهدف أسرتها، هنا، يمكن فهم القصة كتجسيد حقيقي لمآسي الحروب والصراعات التي تطال الأبرياء، وذلك من خلال تصوير جسد “كرمل” كرمز للأرض الخصبة التي تتألم لكنها تتخطى المعاناة لتنهض مجدداً.تكمن الرمزيات الأعمق في تصوير الأعاصير الداخلية التي تُواجهها “كرمل”، إذ تعبر العناصر الطبيعية مثل: “أسراب القطا والذئاب البحرية” عن المخاطر والتحديات التي تواجهها، فيما تُمثل “الفراشات والنور” العزم الداخلي والإصرار على الحياة والتجدد بالرغم من الكوارث، هذا الأسلوب في ترميز الألم والشفاء يمتد ليعكس الاستمرارية الطبيعية بين الموت والحياة، والدورة اللا متناهية للمأساة والانبعاث.