الثورة – جهاد اصطيف:
في مشهد يعكس تحولات عميقة يشهدها المجتمع السوري، يبدأ العام الدراسي الجديد 2025- 2026 بوصفه الأول منذ سقوط النظام البائد، ليكون حدثاً مفصلياً أبعد من مجرد عودة الأطفال إلى الصفوف، فالتعليم في سوريا يدخل مرحلة إعادة بناء شاملة، سواء على مستوى المناهج أو على صعيد الهوية الوطنية التي يراد لها أن تتشكل بعيداً عن إرث نصف قرن من التأطير الإيديولوجي.
لكن هذه البداية الجديدة تترافق مع تحديات كبرى، أبرزها الأعباء المعيشية التي ترهق كاهل الأسر السورية، ما يجعل العام الدراسي اختباراً مزدوجاً بين الأمل في مستقبل أفضل، والواقع الصعب الذي لا يزال يحكم تفاصيل الحياة اليومية.
قطيعة مع الماضي
أعلنت وزارة التربية والتعليم في وقت سابق اعتماد مناهج معدلة للعام الدراسي الجاري، تضمنت تغييرات جوهرية، أبرزها حذف جميع الإشارات والرموز المرتبطة بالنظام المخلوع، وخاصة في مواد الدراسات الاجتماعية، والتاريخ، والجغرافيا، والتربية الإسلامية.
والخطوة الأكثر لفتاً، تمثلت في إلغاء مادة التربية الوطنية بشكل نهائي، وهي المادة التي ارتبطت طوال عقود بالدعاية لحزب البعث وصور النظام البائد، القرار الذي صدر في كانون الثاني الماضي اعتبر من قبل كثير من التربويين تحريراً للمنهج من الإيديولوجيا، وفتحاً لباب التعليم أمام قيم المواطنة الحقيقية والوعي النقدي.
ويبين المدرس عبد الله عبد الغفور أن المناهج القديمة، كانت تزخر بالقصائد والقصص التي تمجّد رؤوس النظام البائد، وتقدمهما على أنهما أبطال الأمة، ويضيف: ذلك لم يكن تعليماً، بل كان عملية تزييف ممنهجة للوعي، المطلوب اليوم أن تكتب المناهج لتظهر الحقائق كما هي، وتوثق نضال الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة.
من جانبها، ترى المدرسة لميس صالح أن حذف رموز النظام خطوة صائبة، لكنها تشدد على أن ذلك لا يكفي، فالمناهج الجديدة يجب أن تزرع في الطلاب القدرة على التفكير النقدي، وأن تبتعد عن الحفظ البصم، نحن بحاجة إلى تعليم يواكب الثورة الرقمية لا أن يظل حبيس الورق.
بين الأمل والاقتصاد
رغم التغييرات التي تبعث على التفاؤل، يبقى البعد الاقتصادي هو التحدي الأكبر أمام العملية التعليمية، إذ يبلغ متوسط تكلفة الزي المدرسي نحو 400 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ يعادل نصف راتب شهر كامل لبعض الموظفين، وإذا أُضيفت تكاليف الكتب والدفاتر والقرطاسية، يصبح تجهيز طالب واحد عبئاً يفوق قدرة كثير من الأسر.
يقول أحمد اصطيفي، موظف حكومي وأب لطفلين: تكاليف الملابس وحدها تتجاوز راتبي، فكيف أستطيع شراء الكتب والدفاتر؟ اضطررت لإعادة استخدام ملابس العام الماضي عبر تعديلات عند الخياط لابني الأصغر، وإلا لم أتمكن من إرسالهما إلى المدرسة.
هذا الواقع يدفع بعض الأسر إلى تقليص عدد سنوات التعليم لأطفالها، أو الاكتفاء بتعليم الأبناء الذكور من دون الإناث.
ويؤكد خبراء أن هذه الظاهرة تهدد بتوسيع الفجوة التعليمية داخل المجتمع السوري إذا لم تعالج سريعاً، إلى جانب المناهج والظروف الاقتصادية، تعاني المدارس السورية من آثار الحرب الطويلة، إذ دمرت مئات المدارس أو تضررت بنيتها الأساسية.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن نحو 40 بالمئة من المدارس بحاجة إلى ترميم أو إعادة بناء، وهو ما يتطلب استثمارات ضخمة.
بعض المدارس تعتمد اليوم على الغرف المسبقة الصنع أو الدوام النصفي لتوزيع الطلاب على فترتين.
أمام ذلك كله يمكننا القول: إن التغيير التعليمي لا يقتصر على الجانب الأكاديمي فقط، بل يمتد إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي للسوريين، فخلال عقود مضت، ارتبط التعليم في سوريا بالتلقين والحفظ، وتوظيف المناهج لخدمة رواية النظام البائد، أما اليوم، فإن إعادة صياغة المناهج تمثل محاولة لإعادة الاعتبار إلى المدرسة كمكان للمعرفة الحرة.
التعليم والهوية الوطنية
يرى الباحث الاجتماعي حيدر السلامة أن التعليم اليوم يلعب دوراً في صياغة هوية وطنية جديدة، فالمناهج ليست مجرد كتب، بل هي أداة لتشكيل وعي الأجيال، إذا أحسنّا صياغتها، فستكون المدرسة المكان الأول الذي يعلم الأطفال معنى الحرية والعدالة والمواطنة. لا يمكن فصل أزمة التعليم عن الأوضاع الاقتصادية العامة، فالتضخم، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، وانخفاض القدرة الشرائية، جميعها عوامل تجعل من التعليم رفاهية لدى بعض الأسر، ومع ذلك، نسمع بين الفينة والأخرى عن بروز مبادرات محلية تحاول سد الفجوة، إما من خلال توزيع الحقائب المدرسية والقرطاسية مجاناً، أو عبر حملات تبرع لتغطية أقساط الأطفال، لكن هذه المبادرات تبقى محدودة مقارنة بحجم الحاجة.
على مفترق طرق
بين مناهج جديدة تبعث على الأمل، وظروف اقتصادية تزيد من المعاناة، يقف التعليم في سوريا على مفترق طرق، هو تحدٍّ يتطلب تعاوناً واسعاً بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، إضافة إلى دعم دولي لإعادة إعمار المدارس وتطوير التعليم الرقمي، فالعام الدراسي الجديد إذاً ليس مجرد بداية روتينية، بل هو اختبار لإرادة السوريين في بناء مستقبل مختلف، حيث تكون المدرسة حاضنة للحرية والمعرفة، وليست أداة للتلقين والتأطير.