الثورة – فؤاد مسعد:
تصدمنا المخرجة واحة الراهب، منذ اللحظات الأولى لفيلمها “قتل مُعلن”، بمشاهد ضرب المعتقلين وتعذيبهم في السجون، وقصف الطائرات والقتل المجاني، هذه المشاهد القاسية تتداخل معها مشاهد قاسية أيضاً من نوع آخر كالاعتداء على المرأة وتعنيفها، ونهر الفتاة من قِبل والديها ومنعها من أخذ الدراجة الهوائية، والسماح لأخيها الذكر باللعب بها ما يعكس مفاهيم من شأنها تدمير المجتمع، شأنها شأن قصف الطيران للأبنية والمرافق المختلفة.
رمزية البداية ساوت بين المُعتدي على الفتاة والجلاد الظالم داخل المعتقلات، بين قاتل الجسد وقاتل الروح، وبعد كل مرة يُرمى حجر في المياه الراكدة، وكأنه جرس الإنذار، المشهد الذي سيتكرر في النهاية عند المأساة الكبرى. تلك الآلام كلها التي مرت سريعاً بشكل متتابع، لم تكن سوى كابوس لطفلة استيقظت منه فزعة، وبسبب خوفها الدائم تعاني من التبول اللا إرادي، ما يُظهر حجم الوجع الداخلي الذي تعيشه بصمت، الأمر الذي يُلخّص واحدة من أهم أفكار الفيلم، وليقول أن هذه المقدمات تفضي إلى النتائج التي نلمسها في النهاية.
“قتل مُعلن” فيلم روائي قصير، سيناريو وإخراج واحة الراهب، عُرض مؤخراً ضمن تظاهرة أفلام الثورة السورية، يتناول حكاية نور ذات الأحد عشر عاماً “ماري الصفدي”، تعيش ضمن عائلة فقيرة وتقيم في أحد مخيمات اللجوء في لبنان، الوالد مصاب برجله “مكسيم خليل” والأم بسيطة “نجلاء الخمري”، نتابع خلال الأحداث واقع العائلة المر الذي يعكس في جوهره واقع النازحين السوريين، ففي كل صباح يذهبون في سيارة الشحن نحو عملهم الشاق لجني القليل من المال، وبعد عودتهم إلى خيام النازحين، نرى نور وهي تحاول عيش طفولتها في اللعب. تظهر في هذا الوقت أم جابر “واحة الراهب” ساعية إلى إقناع والدي الطفلة بتزويجها طارحة جملة من المبررات في مقدمتها الفقر وانعدام الحيلة وقلة الشبّان، وكل كلمة قالتها تحمل في باطنها العديد من الدلالات، هي تبرر أنه لم يعد هناك مدارس ولا مستقبل، وجاءت عبارة على لسانها وهي تنتقد الحالة التي وصلوا إليها “يا دوب عم يسمحولنا نعيش”، عبارة تستدعي التأمل في معناها وما تحمل من أبعاد في عمقها، تختصر سنوات من القهر والألم والحسرة، “عايشين من قلة الموت”، هذا الإحساس الذي يفضي إلى أن الأحياء باتوا أشبه بأموات والفرق بينهما أنهم يتحركون ليس أكثر، وفي عبارة أخرى “لم يعد هناك شباب في سوريا” دلالة على عدد من خسرناهم في حرب حصدت الأخضر واليابس. أمام هذا الكلام الذي ينخر في القلب والوجدان يشعر الوالدان بالانكسار والعجز الكلّي، وأنه لم يعد أمامهما خيار، رغم محاولة رفضهما الفكرة ولكن العجز ربط لسانهما وكبّل أيديهما، وأكثر ما يؤلم في الفيلم الأب المقهور الذي لم يعد يمتلك رفاهية قرار حماية ابنته، كلها أمور دمرت روحه وجعلته كالميت الحي.
ينتهي المطاف بحفل زفاف نور، وما أن تدخل منزل الزوجية حتى تنقلب ضحكتها الطفولية البريئة وتتبدل، وعندها يُرمى حجر آخر في المياه الراكدة، هو الحجر نفسه الذي تم رميه بداية الفيلم بعد كل فعل لا إنساني، يتكرر في مشهد النهاية، لتخرج الطفلة من المياه بثوب زفافها نحو السماء على أنغام أغنية حزينة، تحكي عن “صرخة طفل والكل عليها شهود”.
قضية المرأة التي يتناولها الفيلم أبعد من قرع ناقوس خطر زواج القاصرات، الأمر المرفوض على جميع المستويات، وتتعداه إلى واقع المرأة وما تعيشه من قهر خاصة في ظروف الفقر والنزوح وسيطرة الأقوى، وهو ما سعت المخرجة إلى إبرازه بشكل مباشر وبطّنته بدلالات ربطتها بواقع النازحين المقهورين وتداعيات الحرب، مُظهرة الظلم كسلسلة متكاملة ومترابطة، فهو كحجر يُرمى بثقله في الحياة، وأول ضحاياها الفقراء ومعدمو الحيلة.