الثورة:
يواصل الرئيس أحمد الشرع اليوم لقاءات مهمة في العاصمة الأميركية واشنطن في إطار زيارته الرسمية التي تستمر خمسة أيام، هي الأولى من نوعها لرئيس سوري منذ أكثر من نصف قرن، وتأتي بالتزامن مع مشاركته في أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتمثل هذه الزيارة لحظة فارقة في السياسة الخارجية السورية، إذ تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية وأمنية واسعة، وتعيد صياغة صورة سوريا بعد سقوط النظام السابق.
منذ عام 1967، لم يعتلِ أي رئيس سوري منصة الأمم المتحدة، إذ كان آخر حضور رئاسي من نصيب نور الدين الأتاسي بعد حرب حزيران، أما في العقود التالية، فقد اكتفى النظام السابق بإيفاد وزراء الخارجية أو المندوبين الدائمين، ما عمّق عزلة دمشق على المستوى الدولي.
اليوم، ومع وصول الرئيس الشرع إلى نيويورك بصفته أول رئيس سوري يشارك في “أسبوع القادة” للأمم المتحدة، تبدو سوريا وكأنها تستعيد موقعها تدريجياً في النظام الدولي كلاعب شرعي، لا كدولة منبوذة أو موصومة بالعقوبات.
الزيارة تحمل في طياتها رسالة مزدوجة: إلى الداخل السوري، بأنها ثمرة لمسار سياسي جديد انتهجته القيادة بعد سقوط نظام الأسد، وإلى الخارج، بأنها دولة مختلفة تسعى للانفتاح والتعاون وتصفية تركة الحرب، وقد حرص الشرع في أكثر من مناسبة التأكيد أن سوريا لم تعد “دولة مصدّرة للمخدرات أو اللاجئين أو الإرهاب”، وأنها أوقفت 90% من تجارة المخدرات، وأعادت مليون لاجئ رغم عدم انطلاق عملية الإعمار الكبرى بعد.
من أبرز الملفات المتوقع أن يبحثها الشرع في واشنطن، مسألة العقوبات الأميركية وعلى رأسها “قانون قيصر”، فزيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى الكونغرس ولقاءاته مع أعضاء بارزين فيه، إضافة إلى تصريحات المبعوث الأميركي توم باراك عن “تفاؤله بإلغاء كامل للعقوبات”، كلها تعطي مؤشراً على أن ملف العقوبات حاضر بقوة.
أي تقدم في هذا المسار سيُترجم إلى انفراجة اقتصادية غير مسبوقة ويشجع على عودة الاستثمارات وإعادة الإعمار.
حضور الشرع شخصياً إلى الجمعية العامة يعطي وزناً إضافياً لسوريا في المحافل الدولية، إذ يتيح له لقاء قادة وزعماء العالم مباشرة، وعرض رؤية بلاده لمستقبلها على منبر الأمم المتحدة، هذا الحضور يمنح القيادة السورية فرصة لإعادة صياغة سردية الدولة أمام المجتمع الدولي، والانتقال من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة والتأثير في الملفات الإقليمية والدولية.
كما أن التغطية الإعلامية الواسعة للزيارة تعزز ثقة المستثمرين والداعمين الدوليين بسوريا الجديدة، وتفتح المجال أمام بناء شراكات في مجالات إعادة الإعمار والبنى التحتية والطاقة، كما أن مشاركة وفد وزاري رفيع المستوى في الزيارة (يضم أربعة وزراء) توحي بأن الهدف ليس سياسياً فحسب، بل اقتصادي وتنموي أيضاً، مع برنامج لقاءات يركز على فتح قنوات تعاون حقيقية.
من المرتقب أن تشهد الزيارة لقاءات على مستوى رفيع مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، فضلاً عن لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، في خطوة وصفتها وسائل الإعلام بأنها “تاريخية”، هذه اللقاءات قد تفتح الباب أمام تفاهمات أمنية وسياسية في ملفات حساسة، مثل الحدود، محاربة الإرهاب، إعادة اللاجئين، والتسوية النهائية في الجنوب السوري.
يرى مراقبون أن هذه الزيارة تكرس صورة “سوريا الجديدة” كدولة تسعى للسلام والانفتاح بدلاً من الصدام والانعزال، وإذا نجحت في تحقيق اختراقات ملموسة في ملف العقوبات والتعاون الدولي، فإنها ستشكل نقطة انعطاف حقيقية في مسار البلاد، وتؤسس لمرحلة من “الدبلوماسية الهجومية” التي تعيد دمشق إلى قلب التفاعلات الإقليمية والدولية.
كما أن خطاب الشرع المرتقب أمام الجمعية العامة سيكون اختباراً لقدرة القيادة الجديدة على تقديم رؤية مقنعة للداخل والخارج في آن معاً، فالعالم سيستمع لأول مرة منذ ستة عقود إلى رئيس سوري على منبر الأمم المتحدة، في لحظة رمزية تحمل في طياتها الكثير من المعاني حول نهاية حقبة وبداية أخرى.