الثورة – جهاد اصطيف:
الصناعات الهندسية في حلب واحدة من الركائز الأساسية للاقتصاد الوطني، إذ تحتل مكانة مميزة بين مختلف القطاعات الصناعية بما توفره من منتجات متنوعة تدخل في شتى مجالات الحياة اليومية والإنتاجية، فمن الأدوات المعدنية البسيطة وصولاً إلى الصناعات الثقيلة المرتبطة بالصهر والدرفلة والآلات، شكلت هذه الصناعات على مدى عقود طويلة جزءاً لا يتجزأ من الهوية الصناعية لمدينة حلب، المعروفة بأنها عاصمة الصناعة السورية.غير أن هذه الصناعات، ورغم طاقتها الكامنة وإمكاناتها البشرية والخبرات المتراكمة، تعاني اليوم جملة من المعوقات التي تهدد قدرتها على الاستمرار والتطور، وهو ما دفع لجنة الصناعات الهندسية في غرفة صناعة حلب لعقد اجتماعها الدوري بحضور نائب رئيس الغرفة المهندس محمد زكريا كعدان، وأمين السر المهندس أحمد مهدي الخضر، وقد تم خلال الاجتماع طرح واقع هذا القطاع الحيوي والتحديات التي يواجهها، إلى جانب بحث الحلول الممكنة للنهوض به مجدداً.
معوقات
من أبرز القضايا التي أثارها الصناعيون خلال الاجتماع، مسألة الرسوم الجمركية المفروضة على المواد الأولية الداخلة في الصناعة، فقد أوضح عدد من الحاضرين أن هذه الرسوم ترفع كلفة الإنتاج بشكل كبير، وتضع المنتج المحلي في موقع تنافسي ضعيف مقارنة بالمستورد. وقال أحد الصناعيين: لا يعقل أن نطالب بمنافسة البضائع المستوردة في الأسواق، بينما نشتري المواد الأولية بأسعار مضاعفة بسبب الأعباء الجمركية والرسوم المختلفة. وطالب المشاركون بضرورة إلغاء هذه الرسوم أو تخفيضها إلى الحد الأدنى، باعتبار أن المواد الأولية ليست منتجاً نهائياً يمكن أن ينافس المنتج المحلي، بل هي مادة أساسية لضمان استمرار المعامل وديمومة عجلة الإنتاج.
بين المنع والرسوم
قضية أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، وهي الحماية الجمركية للصناعة الوطنية، إذ شدد الصناعيون على ضرورة منع استيراد أي منتجات لها بدائل محلية، أو على الأقل رفع الرسوم الجمركية عليها لحماية المنتج المحلي. وأشار الحضور في هذا السياق إلى أن الأسواق السورية مليئة ببضائع أجنبية منافسة، في حين يعاني المنتج الوطني من صعوبات في التسويق بسبب الفارق السعري الكبير، فالحماية بالنسبة لهم ليست خياراً ترفياً، بل ضرورة لإنقاذ صناعاتنا من التوقف والإغلاق، مؤكدين أن أي دعم مقدم للصناعة الوطنية، سيعود بالنفع المباشر على الاقتصاد الوطني من خلال توفير فرص عمل جديدة وتوسيع القاعدة الإنتاجية.
تكاليف الطاقة
ولعل أكثر القضايا إلحاحاً التي ناقشها المجتمعون تمثلت في تكاليف الطاقة الكهربائية، ولاسيما بالنسبة لمعامل الصهر والدرفلة، إذ تشكل الكهرباء العنصر الأكثر استهلاكاً في العملية الإنتاجية. وأوضح الحضور أن الفارق الكبير في أسعار الكهرباء بين معامل الصهر وبقية المنشآت الصناعية غير مبرر. وتساءلوا كيف يمكن لمعمل صهر أن يستمر بالعمل إذا كان يدفع أضعاف ما تدفعه منشأة صناعية أخرى؟ هذا يرفع سعر المنتج النهائي ويضعف قدرته التنافسية محلياً وخارجياً. وطالب الحاضرون بضرورة إعادة النظر في تسعيرة الكهرباء لهذه المنشآت، وتعديلها بما يساوي تسعيرة باقي القطاعات الصناعية، معتبرين أن أي حل عملي لمشكلة الطاقة سيسهم مباشرة في تحسين الإنتاجية وزيادة فرص التصدير.
بوابة نحو الأسواق
إلى جانب قضايا المواد الأولية والطاقة، برزت مسألة التسويق والترويج كأحد المحاور الرئيسة للنقاش، فقد أكد المجتمعون على أهمية إقامة المعارض الداخلية والخارجية بشكل منتظم، وضرورة تشجيع الصناعيين على المشاركة فيها من خلال رسوم مخفضة وتسهيلات لوجستية، فالإنتاج لا يكفي وعلى الصناعي أن يظهر جودة منتجه للعالم، وأن يعيد الثقة بالمنتج السوري في الأسواق الخارجية، مشيرين إلى أن كثيراً من الصناعات الهندسية السورية أثبتت قدرتها على المنافسة في السابق، ويمكنها أن تعود بقوة إذا توفرت لها الظروف المناسبة.
شراكة بين القطاعين
بالطبع تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص هو السبيل الأمثل لتجاوز العقبات الراهنة، فالحكومة مطالبة بتقديم التسهيلات والدعم التشريعي والمالي، بينما يقع على عاتق الصناعيين تطوير خطوط إنتاجهم والالتزام بمعايير الجودة العالمية، وفي هذا السياق تعمل غرفة الصناعة على مد جسور التعاون مع الوزارات والجهات المعنية لإيجاد حلول عملية وسريعة، مع التركيز على تسهيل الإجراءات الإدارية والجمركية التي تعيق العمل الصناعي.
من التعافي إلى الريادة
رغم كل الصعوبات التي تواجه الصناعات الهندسية في حلب، فإن روح التفاؤل لا تغيب عن أوساط الصناعيين، فالكثيرون يرون أن هذه المرحلة، رغم قسوتها، قد تكون فرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للصناعة وتبني أساليب إنتاج أكثر كفاءة وحداثة، وإن دعم الصناعات الهندسية في حلب ليس شأناً محلياً يخص الصناعيين فقط، بل هو قضية مرتبطة بمستقبل الاقتصاد السوري ككل، فهذه الصناعات تشكل قاعدة أساسية للعديد من القطاعات الأخرى، من البناء إلى النقل مروراً بالطاقة والتجهيزات الصناعية، ومن دونها، ستظل البلاد بحاجة إلى الاستيراد بما يحمله ذلك من استنزاف للقطع الأجنبي وتبعية للأسواق الخارجية.
إن معالجة المعوقات التي تواجه هذا القطاع، من رسوم جمركية وطاقة وتسويق وتشريعات، تتطلب رؤية شاملة وإرادة جادة، وما الاجتماع الأخير للجنة الصناعات الهندسية إلا خطوة في هذا الاتجاه، تعكس إصرار الصناعيين والمسؤولين على البحث عن حلول واقعية وقابلة للتنفيذ.
بهذا يمكن القول: إن الصناعات الهندسية في حلب، رغم المعوقات الكثيرة، تمتلك مقومات النهوض مجدداً إذا ما تكاتفت الجهود وتوفرت الإرادة، لتعود هذه المدينة العريقة إلى مكانتها الطبيعية كعاصمة الصناعة السورية ورافعة أساسية للاقتصاد الوطني.