الثورة – إيمان زرزور:
في قاعة قمة «كونكورديا» في نيويورك، حيث اجتمع قادة دول ومستثمرون وصنّاع قرار على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان مشهد الرئيس الشرع إلى جانب مدير الـCIA السابق ديفيد بيتراوس محمّلاً بالرمزية، فالسؤال الذي طرحه الجنرال الأميركي – كيف يتحول رجل حرب إلى رئيس دولة – شكّل فرصة للشرع ليقدّم نفسه للعالم بوجه مختلف: وجهُ قائدٍ يريدُ أن يُعرّف تجربته في الحكم بوصفها امتداداً لمسار إنساني لا مجرد انتقال وظيفي.
في رده، قال الشرع: «جيد أننا كنا في يوم من الأيام في ميدان حرب وانتقلنا إلى ميدان الحوار الآن»، مضيفاً: إن «من خاض الحرب هو أكثر إنسان يعلم أهمية السلام»، هذه العبارة تختصر محوراً أساسياً في خطابه منذ تسلّمه الرئاسة: تقديم الحرب كتجربة مُعلّمة تمنحه شرعية الحديث عن السلام، لا كعبء أخلاقي أو ماضٍ يجب التنصل منه.
توقف الشرع عند فكرة محاكمة التاريخ قائلاً: «الماضي له أحكام خاصة به تتعلق بأعراف وقوانين تلك المرحلة، وعندما نريد محاكمة التاريخ يجب أن نحاكمه بقوانين الماضي لا بقوانين الحاضر.. يخطئ من يريد أن يحاكم أحداثاً تاريخية بقانون الحاضر أو يحاكم الحاضر بقوانين الماضي».
وهذه الفقرة تحمل رسالتين: الأولى موجهة للداخل السوري والرأي العام الدولي الذي يطالب بالمساءلة، بأن الحقبة السابقة كانت محكومة بظروفها، والثانية تهيئة الأرضية لخطاب عدالة انتقالية لا يقطع مع كل ما سبق بل يتعامل معه كمسار تدريجي.
الشرع لم يكتفِ بالتبرير القانوني بل رسم أيضاً خلفية سياسية وإقليمية حين أشار إلى أن الشرق الأوسط عاش اضطرابات كبرى من احتلال العراق إلى فلسطين، وأن سوريا كانت مهددة بشكل كبير، ما ساهم في طبيعة الاختيارات آنذاك. هنا يحاول الرئيس القول إن قرارات الحرب أو المواجهة لم تكن نزوة بل استجابة لبيئة إكراهات أمنية وجيوسياسية.
أكّد الرئيس أن النوايا كانت الدفاع عن الناس وحماية حقوقهم وإنقاذ الأطفال والنساء، لكنه اعترف بأن الإنسان يمكن أن يخطئ أثناء مسيرته، وختم بالقول إن «حماية الإنسان من المخاطر أثناء الاضطرابات شكّلت عمود الالتزامات الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن ونجلس مع بعض كأصدقاء» في إشارة إلى بيتراوس.
هذا التذكير بالنوايا الحسنة، مع الاعتراف بإمكان الخطأ، يرسم صورة «قائد يتعلّم» ويضع نفسه في موقع الشريك في السلام لا في موقع الخصم، وهذه التصريحات مجتمعة تحمل عدة رسائل… من هذه الرسائل، رسالة إلى الداخل السوري بأن الحرب كانت ضرورة بظروفها لا خياراً أبدياً، وأن القيادة الحالية تعترف بأهمية السلام والحوار، وإلى المجتمع الدولي بأن دمشق الجديدة مستعدة لطي صفحة الحرب والانخراط في قنوات دبلوماسية واقتصادية، لكنها تريد تفهّماً للظروف التي حكمت سلوكها في الماضي.
أما رسالة الشرع إلى خصوم الأمس مثل الولايات المتحدة هو أن التحول من الميدان العسكري إلى مائدة الحوار ليس مجاملة، بل قناعة ناتجة عن خبرة، وأن الشراكة الممكنة تقوم على إدراكٍ متبادلٍ لهذه التحولات. فردُّ الرئيس أحمد الشرع على سؤال بيتراوس، كان خطاباً مضغوطاً لمرحلة سياسية كاملة: من رجل خاض الحرب إلى رئيس يسعى لترسيخ السلام، من قائد يبرر اختياراته في بيئة اضطرابات إلى زعيم يلمّح إلى عدالة انتقالية وإعادة بناء صورة سوريا في العالم، وهذا الرد، في منصة دولية مثل «كونكورديا»، يعكس استراتيجية تواصل جديدة تسعى إلى تقديم سوريا بوصفها دولة مسؤولة تسعى للتهدئة والانفتاح بعد سنوات من الحرب والانقسام.